محمد صابر عبيد
يقف مفهوم {الاستمرارية} من حيث المبدأ ضد مفهوم الثبات والتوقف والسكون، وقد يحتوي هذا الضد السكوني دلالات أخرى تتعلق بالتراجع والنكوص والخسارة والفقدان ونهاية المسيرة، لذا فإن هذا الضد لا يمكن أن يندرج صاحبه في فضاء الإبداع على وفق أبسط معنى للإبداع.
ولعلّ الشرط الأوّل والأبرز للفعل الإبداعيّ هو "الاستمراريّة" التي من دونها يفقد المبدع قيمته على صعيد الأداء والإجراء، ومن ثمّ يخرج خارج دائرة الإبداع ويتحوّل إلى السائد والعادي والتقليدي -فعلاً ومضموناً ونتيجةً-، وتنتهي علاقته على أيّ مستوى من مستويات الفهم والإدراك مع هذا المفهوم؛ كي يبقى شرط الاستمراريّة هو المعيار الأوحد لبقاء وصف الإبداع رفيقاً لحالة المبدع المتواصل بحراكه الإبداعيّ الأصيل، بحيث يكون مبدأ "الاستمراريّة" هو الحدّ الفاصل بين حركيّة الإبداع وضدّها.
ينفرد العمل الإبداعيّ من بين ما ينفرد به بالاستمراريّة الإجرائيّة التي لا تتوقّف لأيّ سبب كان، لأنّ التوقّف عن الاستمرار في الفعاليّة الإبداعيّة يعني نضوب الخزين الإبداعيّ لدى المبدع؛ فيكفّ عندها عن توصيفه بأنّه مبدع ممّا يدلّ دلالة قاطعة على الشكّ في إنتاجه السابق، فالموهبة حالة قائمة ودائمة ومستمرّة طالما أنّ الإنسان الموهوب على قيد الحياة.
وكلّما تمكّن الموهوب من تطوير موهبته وشحذها وتثقيفها وإدامة عناصر الإبداع الكامنة فيها؛ استطاع أن يحقّق ديمومته الإبداعيّة على نحو خلّاق بما ينجزه من فنّ متطوّر وحداثيّ وأصيل، بوسعه التعبير عن تجربته بأساليب مختلفة ومتطوّرة تكشف عن حيويّة الأدوات والخبرة والأداء والفاعليّة والإنتاج.
تمتلك الاستمراريّة مجموعة ممارسات وأفعال وإجراءات يستحيل أن تستقيم على النحو المطلوب بغبر قصديّة وتخطيط ومعرفة، فهي إذن ليست قراراً يتّخذه الموهوب فنياً لغرض إقناع الآخر بموهبته؛ بل ينبغي أن تتحوّل إلى سلوك يوميّ فعّال ومنتِج، ينهل من خزين فنّي وثقافيّ وفكريّ ومعرفيّ يتطوّر باستمرار؛ ويضيف إلى مخزونه مزيداً من الكثافة والثقل والعمق والأصالة، بما يسمح بتزويد الفنّان بما يحتاجه من عناصر التشكيل الجماليّ الذي يحوّل التجربة الأدبيّة إلى خطاب أدبيّ، ولا بدّ في هذا المقام أن تتحلّى هذه الممارسات والأفعال والإجراءات بجماليّات نوعيّة على المستويات كافّة، بحيث تتأكّد صورة الاستمراريّة بتعزيز الجانب الجماليّ القادر على الإبهار والإدهاش والتحفيز والإثارة، ويبقى الموهوب في دائرة الحضور والتأثير والفعل داخل الوسط الثقافيّ والأدبيّ.
إنّ التوقّف عن هذه الاستمراريّة لدى أيّ أديب لا يمكن تبريره سوى بوجود خلل جوهريّ في بنائه الأدبيّ، إذ في استعراض الفضاء الأدبيّ العراقيّ على سبيل المثال نجد في كلّ جيل من الأجيال الأدبيّة أسماءً أدبيّةً تستمرّ، وتظلّ قادرة على العطاء وتحقيق التقدّم في مسيرتها الإبداعيّة بما يخدم تطوّرها وقوّة حضورها وتأثيرها في المشهد بلا توقّف، وهي الأسماء الأدبيّة الحيّة التي تنتقل من جيل إلى آخر بقدرة فائقة وكأنّها تنتمي إلى الأجيال كلّها، بقدرتها واستعدادها للتفاعل والاندماج واستيعاب المستجدّات الحاصلة في كلّ جيل لاحق وفهمها والتواصل الحيّ معها، وضخّ قدراتها وطاقاتها التعبيريّة والتشكيليّة كي تكون في أوج عطائها من دون الإحساس بأنّها صارت خارج الدائرة، بل إنّ قسماً منها تبقى قادرة على قيادة حركات أدبيّة تجد لها مريدين فعّالين في الأجيال اللاحقة، بأفق إيجابيّ ينفتح على عناصر متطوّرة بلا حدود تكون قادرة على التوجيه والإنتاج معاً.
الاستمراريّة ليست قدرات وطاقات وإمكانات ذاتيّة لدى المبدع المؤمن بها فحسب؛ بل هي ثقافة تداوم على فعاليّة التكريس والتراكم والتجذير، على النحو الذي يسهم في توصيفها بأنّها تمثّل مساراً إنسانياً إبداعيّاً لا يمكن المساومة عليه؛ حين يريد الفنّان التعبير عن طاقاته التي لا تنضب إذ يشعر بقوّتها في داخله، وبقدرتها على الاستمرار في الإنتاج بروح عابرة للزمن والمكان، وقادرة على بناء فضائها على وفق أصالة إبداعيّة ذات طبيعة جدليّة متجاوزة للظروف والمفارقات والمصادفات والأحداث، مهما تمكّنت من تعطيل أجزاء معيّنة من آلة الإبداع أو التصدّي لفعاليّة استمرارها وتحدّيها، والإيمان المطلق بأنّ مثل هذا التعطيل هو وقتيّ وهشّ وعابر وثانويّ؛ ولا يشكّل خطراً كبيراً على المسيرة العامّة الكبرى للحراك الإبداعيّ في مراحلها
كلّها.
يحصل الفارق الكبير إذن بين مبدع أصيل يستمرّ وليس أمامه سوى هذا الخيار مهما كانت الظروف، وآخر يظهر في وقت معيّ، ويتألّق ويحصل على قوّة حضور كبيرة ثمّ ما يلبث أن يتوقّف ويغيب ويختفي فجأة وكأنّه لم يكن قطعاً، فمن يستمر هو الحقيقيّ الأصيل ومن يتوقّف يكفّ عن التمتّع بوصفه الإبداعيّ لأنّ طاقته المؤقّتة قد نفدت، وليس أمامه سوى إعلان اعتزاله والاكتفاء بما حقّقه، وما حقّقه لن يعيش طويلاً لعدم أصالته فهو نتيجة فورة إبداعيّة عابرة تشبه الحمل الكاذب، مهما تمكّن من تحقيق حضور لافت في مدّة زمنيّة محدّدة لا يعوّل عليها، فالشرط الأساس في هذا السياق هو التواصل والاستمراريّة والتطوّر الناجز بلا توقّف أو تلكؤ، ولا شفاعة لمبدع ليس له طريق كاملة تنتظمها قوانين وأعراف إبداعيّة تتشكّل وتتكامل وتنتج عن طريق الاستمراريّة.
تتشكّل معاني البقاء والثبات والديمومة إذن على حال واحدة لا تتغيّر بما تنتجه من دلالات وقيم في إطار الاستقرار الذي ينفي فكرة الإبداع، إلّا إذا كانت هذه المعاني تدلّ على مرحلة تستقرّ فيها التجربة كي تنطلق نحو مشروع جديد داخل هذا الفضاء، لأنّه من غير حضور "الاستمراريّة" في نهاية المطاف فإنّ كلّ ما له صلة بالفنّ والأدب يتوقّف وينزوي ويتحلّل ويموت.