رافع الناصري.. حروفيات بقيمة تشكيليّة مستقلة

ثقافة 2024/06/10
...

 مرتضى الجصاني

لم تكن الحروفية العربية تجربة نابعة من فن الخط العربي كما يُعتقد، بل هي متأثرة بمدارس الفن الغربي حاولت عبره استلهام الحرف العربي بشكله أو برمزيته وبخطابه التأويلي كذلك.
وهنا يحدث الالتباس بين الحرف الكتابي والخط العربي ليس من ناحية الشكل فحسب، بل في استخداماته أيضاً، إذ غالباً ما يقع الناقد في حيرة من تعريف الحروفية أو توصيفها كما يجب أن تكون.
المثير في هذا، أن حركة الحروفية ظهرت بداياتها في العراق في النصف الأول من القرن العشرين، حيث كان فن الخط العربي غائبا تماماً عن المشهد.. غائبا كفن له حضوره وله أفذاذه، إذ لم يكن له ذلك الوهج الذي ظهر بعد ذلك مع الخطاط هاشم البغدادي، بل كان مهنة حرفية طغى عليها الإتقان في كتابة لافتات تجارية وكتابات ضعيفة للمساجد، بل لم يكن الخط العربي آنذاك قد ألهم الفن من داخله برونقه وبريقه ولم يجذب الأنظار في جمالياته وتراكيبه وقوة حروفه وتناغمها وتناسقها وتشابكها كما الذي ظهر في فترة لاحقة من القرن الماضي. وإذا تناولنا بدايات حروفية لها ملامح واضحة من الطبيعي ستكون تجربة "مديحة عمر، وجميل حمودي" رائدة في هذا الشأن، حيث ظهرت هذه التجربة من أربعينيات القرن العشرين، إلا انها لم تعرض إلا في بداية الخمسينيات، إذ اسهمت مديحة عمر في بحث الحرف العربي عبر الفن التشكيلي متوخية الكشف عن طاقاته الإبداعية، خاصة في استخدام الحرف الكوفي.
ما أود التركيز عليه أن إلهامات الحرف في اللوحة لم تأت من التأثر بفن الخط العربي، بل جاءت عبر عوامل مختلفة، منها الاجتماعي والسياسي والنفسي أحياناً، ويقول جميل حمودي، وهو أحد أهم مؤسسي استلهام الحرف في اللوحة التشكيلية، إن اللحظة التي وثبت فيها إلى ذهني فكرة استيحاء الحرف العربي في العمل الفني كانت في ساعتها نوعا من الابتهال، والصلوات لنفس أفزعها الفراغ الذي ملأ الحياة الأوروبية، التي كنت حديث العهد بها ".
والسبب ذاته الذي جعل شاكر حسن آل سعيد يلجأ إلى تجريد الحرف واستخداماته وتنظيراته بعد عودته من باريس، بينما لم نجد أحد من هؤلاء الرواد تبنى استخدام الحرف تأثراً بفن الخط العربي "الذي يعد فنا مستقلا له خصوصياته".
وعلى الرغم من أن كلا الحالتين تشتركان في البحث عن المطلق والطمأنينة والخوف من الفراغ يتخذ المبنى الغنوصي طريقا للتعبير، إلا أن مصدر كل واحد منهم مختلفا تماماً عن الآخر، ولهذا نجد أن الحركة الحروفية تتبنى مفاهيم ملتبسة نوعا ما من حيث أساسيات القيم الحروفية، فكانت المحاولة من خارج فن الخط العربي.
أما الفنان رافع الناصري الذي كان أحد أهم الحرفيين الذين اشتغلوا على الحرف مع نخبة من فنانين تبنوا مفهوم البعد الواحد أو استلهام الحرف العربي، كان يشتغل وحيداً وبعيداً عن جميع اتجاهات المفهوم والاستخدام والتقنية، فهو لم يستلهم رمزية الحرف أو شكله التأويلي أو التوضيحي فحسب، بل كان يجمع دلالات وتوظيفات وتقنيات الحرف ويضعها على القماش، كما يقول إن "المتأمل للحرف العربي مجردا من معناه، مفصولا عن أية خدمة لغوية يراد التعبير عنها يجده ذا قيمة تشكيلية مستقلة تعتمد على الأسس الفنية من شكل وحركة وفراغ".
إن القيم الثلاث التي ركز عليها الناصري في رؤيته حول الحرف هي ما يفتقدها الفنان التشكيلي أو حتى الحروفي بوصفها شكلا وحركة وفراغاً .
هذه القيم الفنية لم تأت من فراغ فكري أو ثقافي، لذا نجد تجربة رافع الناصري تكاد تكون الوحيدة المتأثرة بفن الخط العربي، بمعنى هو التجربة التي ولدت من داخل الخط العربي وتغذت على فن الخط الصيني عند دراسته في الصين. واعتقد أنه كان من الممكن أن تتطور تجربة الناصري إلى استخدامات وأنماط أكثر في مجال الحروفية إلا أن ذلك لم يحدث لأسباب تخص الفنان ورؤيته.
في وقت يقول الفنان ضياء العزاوي ما مضمونه "لا أريد أن أكون خطاط رساما، بل أريد أن أكون رساما يستخدم الخط". ورغم أن هذا لم يحدث كما أراد، إلا أن هذه المشكلة الفنية لم تواجه الناصري لا من حيث الرؤية أو التقنية، ورؤياه كانت واضحة اتجاه الحرف من ناحية التقنية، فهو يستخدم الحرف بتقنية الخطاط المتمرس في ضربات فرشاته، وهذا على الأكثر جاء نتيجة اطلاعه على الخط الصيني تأثراً في تناثر الحبر على سطح القماش، حتى يخال للمتلقي أن الهواء عصف بقطرة الحبر وهي لم تهبط من الفرشاة بعد وهكذا.
 أما من حيث الشكل فهو يستخدم حروفا محددة تقريباً، حيث يميل الناصري لأحرف الهاء والواو وبعض تشكيلاتها لأن دلالتها عميقة على المستوى الفني وتمنحه حرية في ابتكار أشكالا رشيقة في انسيابية الحركة على السطح وجمالية التشكيل، وكذلك منح الحرف حركة متجددة مع كل عمل، وهو بهذا يؤثث الفضاء الفني للعمل كرسام محترف، كما يعامل الحرف كخطاط محترف عارف بطاقات الحرف وشكله وتقنياته.. هو لا يرسم حدودا فحسب، بل يجعل الحرف يعبر عن نفسه في تشكيلاته وابتكاراته في تركيباته الحروفية.
هنا يمكن القول إن حروفية رافع الناصري هي طابع خاص تماماً، وأن حروفيته هي الشكل الحقيقي لمعنى العمل الحروفي الذي يتجاوز العمل التشكيلي الغارق في الإسفاف والأشكال المتكررة والترميزات الشكلية، فضلا عن أنه لا يقع في العمل الخطي الكلاسيكي باستخدام الخط العربي وقواعده في العمل الفني، لأنها منطقة حروفية صعبة لا يجيدها الكثير من المشتغلين بهذا الشأن .