رجلٌ بين قبرين

ثقافة 2024/06/11
...

 حسن السلمان

 

رجلٌ وجريدة

ما إن أوشكتُ على مغادرة منزلي، حتى رنَّ الهاتف، ومن عادتي لا أتأخر في رفع السّماعة والرد، لكنني في ذلك اليوم شعرت بشعورٍ غريب يدعوني إلى عدم الرد، فتركته يرنُّ وخرجت.

عادة ما أتوجه مباشرة إلى محطة الحافلات للذهاب إلى عملي، لكنني فضّلت المرور بالحديقة العامة لسبب لا أعرفه حقاً، ومن ثم سلوك طريقي المعتاد. 

في مثل هذا الوقت المبكر من الصباح، تكون الحديقة شبه خالية إلا من عاملة النظافة، وبعض سكارى البارحة الذين خانتهم قواهم فرموا بأنفسهم على مصاطب الحديقة الخشبية.

قطعت الحديقة ورائحة العشب الندي تملأ صدري، وما إن أوشكتُ على مغادرتها، حتى استرعى انتباهي رجلاً يجلس على مصطبة ويفتح أمامه جريدة، مع أن رؤية رجل متقاعد، أو عاطل من العمل يتسكع في هذا الوقت شيء عادي، إلا أن فورة من الفضول داهمتني لرؤية وجه الرجل الذي لم أرَ منه سوى ياقة معطفه التي تغطي أذنيه، وجريدته التي تحجب وجهه عن الأنظار. 

درت أكثر من مرة حول سياج الحديقة المحاط بشجيرات الآس على أمل أن يضع جريدته وأرى وجهه  الذي أصبح شغلي الشاغل، إلا أنه لم يضعها قط، فقررت الانصراف ولكن ثمة رغبة جامحة برؤية وجه الرجل أعادتني إلى الحديقة.. أصبت بخيبة أمل حين رأيت مصطبته فارغة إلا من جريدته.. أسرعت إلى المصطبة وفتحت الجريدة لأعرف ماهي الأشياء المهمة التي كانت لاتدع هذا الرجل يترك هذه الجريدة اللعينة. كانت عدداً قديماً مرَّ على صدوره زمنٌ بعيد. 


خطوتان.. أربع خطى

كانت الأرض بيضاء والسماء بلا لون.. في ساعات الصباح الأولى، ارتسمت ستُّ خطى على الأرض الثلجية وهي تتقدم باتجاه كوخ مهجور أسفل رابية بأشجار جرداء، تبدو من بعيد كما لو أنها فزاعات طيورٍ لم يبق منها سوى خرقٍ تخفق في الريح الصقيعية.. بعد رشقةٍ من الرصاص تردد صداها بين الروابي، ارتسمت أربع خطى على طريق العودة، بينما ذابت خطوتان عن الوجود.. هناك، 

أمام كوخٍ، أسفل رابيةٍ، تعلوها أشجارٌ كالفزّاعات. 


هواء ودخان

أمسكتْ شباك ضريح الولي الصالح ودعت الله أن يعيده إليها سالماً. 

استجاب الله لدعائها وعاد الغائب.. عاد الغائب، ولكنها لم تترك الشباك ودعت الله أن يخلصه من عادة الكتابة على الهواء، ومطاردة خيوط الدخان.


بين قبرين

بعد ثلاثةِ عقودٍ من عدم رؤيتهما لبعضهما البعض، جلسا بين قبرين وراحا يستذكران الأيام الخوالي.. أيام المواعيد تحت جنح الظلام، والإشارات من وراء الأبواب المواربة، والرسائل المذيلة بعبارة "حبيبك المخلص إلى الأبد، أو حبيبتك المخلصة إلى الأبد" مع قلبِ حبٍ مشطورٍ ينزف دماً مرسوماً أسفل الرسالة المعطرة. 

انتهى وقت زيارة ميتهما العزيز وصعدا الحافلة مع العائلة.. كل ليلة، وحتى أيامهما الأخيرة، ظلا يحلمان حلماً واحداً بأنثى وذكر حمام يبنيان عشهما بين قبرين.  


ذبول زهرة

أمضى زهرة شبابه يصنع القوارب، ولم يفكر يوماً بالصعود على متن أحدها حتى جاء ذلك اليوم الذي لم يستطع أن يقاوم رغبته في ركوب قارب من صنع يديه والعبور إلى الضفة الأخرى، لكنَّ الزهرة ذبلت، وانحنى ساقها، ولم تعد هناك من ضفة أخرى. 


رمال ناعمة

مثل قطيعٍ من الضباع الميتة من الجوع، ظلوا طوال الليل يدورون حولها بانتظار صدور الأمر برجمها، وعندما صدر الأمر، بحثوا في كل مكان عن حجارةٍ واحدةٍ ولم يجدوا شيئاً.. كانت الأرض بحراً من الرمال الناعمة، تبحر بين ذراته المتلاطمة، مراكب شراعية متبوعة بأسراب نوارس، ومخلوقات مجنّحة، تضم إلى صدورها أهلُة ونواقيس من حرير.  


صور الأمهات

كانوا صغاراً، تتمايل رقابهم النحيلة تحت ثقل الخوذ الفولاذية، وتغرق عيونهم، التي ماتزال تتمتع بصفاء الطفولة، بدموع فراق الأحضان الدافئة.. ترددوا طويلاً بصعود العجلة التي سوف تقلهم إلى المحرقة، واستنشقوا الهواء بقوة، كما لو أنهم على وشك أن يغطسوا في الماء.. من رماد أجسادهم التي خلفتها نيران المعركة، انبثقت صور الأمهات، بأبهى صورة، وأجمل شكل. 


"قلبي دليلي"

أخفوا عنها خبر موته خشية على حالتها الصحية من التدهور. قالوا لها، أطمئني، سيعود قريباً، بل هو في الطريق إليكِ، لكنها اغتصبت ابتسامة مرة، وردت عليهم: هيهات.. "قلبي دليلي".