رسالة تظهر صراعات الكتابة

ثقافة 2024/06/11
...

  أمجد البيروتي


تُظهر رسالة نادرة كتبها فرانز كافكا إلى ناشره مدى معاناة الكاتب البوهيمي من الكتابة على الورق، بخاصة مع تدهور صحته.

هذا الأثر المخطوط سيطرح للبيع في حزيران الجاري، ويعود إلى مرحلة تشخيص إصابة كافكا بمرض السل، الذي بحسب مختصين سبّب له الإحساس بالشلل العقلي والعجز قبل أن يقضي عليه.

الرسالة كتبها كافكا إلى صديقه وناشر أعماله الشاعر النمساوي ألبرت إيرنشتاين، وجاء فيها "عندما تتغلغل المخاوف إلى منزلة معينة من الوجود، تتوقف بشكل واضح القدرة على الكتابة وكذلك الشكوى.. حتى معاندتي لم تكن قوية على الإطلاق أيضًا".

ويعتقد الباحثون أن الرسالة غير المؤرخة كُتبت في فترة ما بين نيسان وحزيران 1920، عندما كان كافكا يتلقى العلاج من مرضه في عيادة بميرانو، شمالي إيطاليا. ومن الأكيد أن مشاعر الوسوسة والانطوائية والتجهم، التي طاردته طوال حياته فاقمت أيضًا في تدهور صحته.  

ويُعتقد أن الرسالة المكتوبة بخط اليد وبلغة ألمانية مقروءة وبليغة، رد فيها كافكا على طلب صديقه الذي دعاه للمشاركة في مجلة "الزملاء" وهي أدبية تعبيرية كان يحررها إيرنشتاين في ذلك الوقت. ما حفز إيرنشتاين على هذا الطلب، ربما لأنه وقع على مجموعة قصصية قصيرة طبعت مؤخرًا لكافكا وعنوانها "طبيب الريف".  هذه المجموعة نشرت عام 1919، أي بعدما انتهى كافكا من كتابتها قبل عامين. لكن كافكا كان حاسماً وسرعان ما حرر صديقه من فكرة أنه قادر على الكتابة بنشاط، وصارحه قائلًا "لم أكتب شيئًا منذ ثلاث سنوات، ما ينشر الآن أشياء قديمة، ليس لدي أي عمل آخر، ولا أي شروع في مؤلف جديد". الرسالة التي ستطرح للبيع بالمزاد عبر الإنترنت في 27 حزيران الجاري، تأتي ضمن فعاليات ذكري 100 عام على وفاة كافكا. 

ويصف المتخصص في الكتب والمخطوطات في دار "سوثبي" للمزادات في لندن غابرييل هيتون، المخطوطة بأنها "من رسائل كافكا القليلة التي تتحدث عن أعماله". 

ويضيف إن "هذا شيء نادر للغاية، فضلاً عن كونها رسالة ذات محتوى مهم تشعر حقًا بأنها تجذبك إليه كشخص، وتمنحك إحساسًا بالفرادة". برأي غابرييل هيتون أن حياة كافكا لم تكن تقارب "العالم الكفكاوي" الذي تبلور في أعماله، ذلك الموسوم بالعبث والعجز والضياع في الدوامات. ونبرة الرسالة، الموقعة ببساطة باسم "كافكا"، كانت نبرة شخص يتحدث إلى صديقه، لكنها "لم تكن رسالة أدبية واعية بذاتها. نحن ندرك جيدًا إلى أي مدى فرضت الكتابة شروطًا مكثفة على كافكا وتطلبت احتياطيات عميقة من قوته الداخلية. لا تشعر أبدًا أن الكتابة سهلة بالنسبة إليه. إنه مرهق بسبب ذلك، وهو ليس بالشيء الذي يتدفق منه بسهولة، وهذا شعور عميق للغاية".

ويتابع هيتون أن "يتحدث إلينا كافكا، من بين جميع أقرانه، عن عقبة التوقف عن الكتابة، لهو أمر مؤثر ومفيد بشكل خاص. إنها حالة تؤهله لحيازة جائزة عجز الكاتب، كما نرى من مذكراته". ففي مذكراته بتاريخ 30 كانون الثاني 1915 وردت هذه الفكرة "عليك أن تغوص للأسفل، وتغرق بسرعة أكبر من ذاك الذي يغرق أمامك".

هذا المناخ يظهر في العديد من الإشارات اللاذعة والمؤلمة لحالته مثل "نهاية الكتابة، متى ستتملكني مرة أخرى"؟ و"العجز القديم" و"جمود تام وعذابات لا تنتهي".

بمعزل من اللهجة السوداوية للرسالة، فهي تزامنت مع شروع كافكا في ما يمكن القول إنها علاقة الحب الأكثر كثافة في حياته، مع الصحفية التشيكية ميلينا بولاكوفا يسينسكا، التي كانت ترجمت للتو  مؤلفه "الوقّاد". ويقال إنها لعبت دورًا فعالًا في تشجيعه على التغلب على ركوده الإبداعي لكتابة رائعتيه الأخيرتين، "القلعة" و"فنان الجوع".

وبرأي هيتون "على الرغم من أن الرسالة كتبت في لحظة من اليأس، إلا أنه من المؤثر بشكل خاص أن نعلم الآن، أنه كان على وشك خوض تجربة التحوّل هذه، والتي من شأنها أن تحفزه على دفعة أخيرة من الإبداع".

واستنادًا إلى الطلب المتزايد بين هواة جمع الرسائل المكتوبة بخط اليد بشكل عام، ورسائل كافكا على وجه الخصوص، فمن المقدر أن يصل سعر المخطوطة إلى ما بين 70 ألف جنيه إسترليني و90 ألف جنيه إسترليني، وهو أمر نادر في العصر الرقمي. 

الرسالة سبق وطرحت للبيع آخر مرة قبل حوالي 11 عامًا، وبحسب دار "سوثبي" المالك الحالي هو أحد هواة جمع الأعمال الفنية لرواد الثقافة الأوروبية، من دون تقديم المزيد من المعلومات.

مات كافكا في 3 حزيران 1924 وله من العمر 40 عاما فقط، ويأتي هذا المزاد ضمن فعاليات متعددة تتضمن إصدارات لعدد من كتب الجديدة وأفلام تتناول سيرته الذاتية وبعض المعارض التي تعيد إلى ذاكرة "العالم الكافكاوي" الذي طبع مرحلة معينة من الثقافة الحديثة في بدايات القرن العشرين.

احتفظ الشاعر ألبرت إيرنشتاين بالرسالة حتى عام 1948، حين أرسلها في شيخوخته إلى الفنانة التشيكية المولد دوللي بيروتز، التي هربت من تشيكوسلوفاكيا عندما احتلها النازيون عام 1938، واستقرت في ولاية ماساتشوستس الأميركية، ومن حسن الحظ أن الرسالة لا تزال داخل ظرف البريد الجوي الذي وصلها.