حياة العبيد في السجون
ترجمة: كامل عويد العامري
هذا الكتاب فريد من نوعه.
فهو يُسلط الضوء على العقاب المزدوج، الذي تعرض له العبيد الذين خرجوا من صفوف العبيد، وعلى شكل من أشكال القمع، الذي لم يشك فيه إلا القليل من الباحثين: وهو قمع الأشخاص الذين حُرموا من حريتهم بالفعل. توفر لنا الأرشيفات التي عثر عليها المؤلف عن نظام العدالة في جزيرة لا ريونيونla Réunion- التي كانت تسمى سابقاً جزيرة بوربون Île Bourbon التي تقع في المحيط الهندي، شرق مدغشقر - حالة لم يسبق لها مثيل على نطاق عالمي. تمكّن هذه الوثائق من إعادة بناء حياة الرجال والنساء، الذين لم يقبلوا أبدًا أن يصبحوا سلعًا، وكل أشكال العنف، التي كان لا بد من استخدامها ضدهم لإبقائهم في حالة العبودية. إنه غوص في عالم عبثي حيث كانت المحاكم والشرطة وقوى القانون والنظام، وطاقم العدالة بأكمله، كلها في خدمة جور كان الجميع يعلمون مع ذلك أن أيامه معدودة.
عزل “السود والزنوج”
في الثالث عشر من 13 ديسمبر/ كانون الأول عام 1821 أجرى بيير ديجان، قاضي التحقيق في جزيرة بوربون، استجواباً في مكتبه لشخص يُدعى تيليماك، وهو عبد. وصف التقرير الذي أعده كاتب المحكمة المتهم بأنه “مدغشقري، أسود البشرة، ويقدر عمره بثلاثين عامًا، من عبيد السيد هنري”. فما هي التهم الموجهة إليه؟ هرب تيليماك من سجن سانت دينيس، عاصمة المستعمرة في الثامن من نوفمبر / تشرين الثاني1821. وقد استفاد بالتأكيد من تواطؤ نشط مع عدد من عبيد آخرين محتجزين مثله: سيلفان، هيكتور، سيريل وعلى وجه الخصوص فرانسوا وغابرييل. في الساعة السابعة مساءً، بعد أن أغلق الحارس أبواب مهجعهم، استخدم غابرييل وفرانسوا مبردا كان مخبأ مسبقًا تحت الأسرّة لنشر قضيب النافذة. وبهذا القضيب كسرا قفل الكرمة الخشبية التي كان يحبس فيها العديد من السجناء الآخرين بينهم تيليماك. ثم صعدوا بعضهم على ظهور بعض ، وهربوا من “الشباك الذي يطل على سطح السجن”. وتسللوا خلسة في شوارع المدينة، توقفوا بالقرب من نهر، حيث كسروا سلاسلهم بالصخور. بعد عدة أسابيع، ألقت الشرطة القبض على تيليماك وأعيد فورًا إلى السجن في انتظار التحقيق ومحاكمته، التي ستنتهي بالتأكيد بإصدار حكم جديد ضده.
لم يكن تيليماك عبداً محتجزاً في سجن في جزيرة بوربون. ففي موطنه الأصلي، كان رجلاً حراً وكان يحمل اسماً آخر. كان مزارعًا من بيتسيليو من المرتفعات الوسطى أو صيادًا من أنتاندروي من الساحل الجنوبي الشرقي، ومن المحتمل أن مرتزقة شعب بيتسيميساراكا هي التي قد أسرته، هي مجموعة إثنية رئيسة في مدغشقر. تقطن في الجزء الشمالي الشرقي من الجزيرة، ويعني الاسم Betsimisaraka people «الشعب غير القابل للانفصال». في واحدة من غارتها. حُبس مع أسرى آخرين لعدة أسابيع في مستودع في ميناء فولبوينت أو تاماتافي، ثم اشتراه تاجر رقيق فرنسي. اقتيد بعد ذلك إلى جزيرة بوربون واشتراه السيد هنري، صاحب عقار شاسع في مرتفعات سان دوني. وفي هذا الوقت فُرض عليه الاسم الأول تيليماك، مقترنًا بتعميد قسري وسريع. ومع ذلك، لم يتقمص المدغشقري دور العبد المطيع المستسلم. فقد كان يتحدى أوامر سيده بسهولة، وغالبًا ما كان يهرب من الضيعة لعدة أيام في كل مرة. وكعقاب له بالطبع، يجلد ويقييد بالسلاسل كما يشاء سيده، ولكن لم ينفعه ذلك. وفي عام 1820، انقلبت حياة تيليماك رأساً على عقب مرة أخرى. فقد أدين بسرقة كيس من الذرة، ليلاً واقتحام ممتلكات أحد جيران سيده، وحكمت عليه الدائرة الجنائية في المحكمة الملكية بالسجن خمس سنوات مقيدًا بالسلاسل، وهي عقوبة سجن مخصصة للعبيد.
بعد أن أودع سجن سان دوني، واجه تيليماك على الفور عنفًا تجاوز حدود ما يمكن تحمله. وبعد أن جُلد 30 جلدة في المكان المعتاد، وُسم بحرف V (الذي يعني لصا «voleur») على كتفه الأيمن وقُيد من رقبته بالسلاسل إلى عبد آخر مدان. ويُعطى وعاءين من الأرز أو الذرة يوميًا، بينما يخضع للأشغال الشاقة المرهقة خارج السجن. حيث يعمل عشر ساعات في اليوم في حفر الخنادق على جوانب الطرق و/أو تكسير الصخور لتحضير صخور الأرصفة. ثم هناك الحراس: البواب لويس تاربي، المدمن على الكحول والفاسد، وابنه سيفير تاربي، السجان، وأنطوان، أحد القادة، الذي جُنّد من بين العبيد المدانين ليحلوا محل الاثنين الآخرين، والذي يُخشى منه بسبب ازدواجيته وقسوته. كان هذا الثلاثي الاستبدادي متهورًا إلى أقصى درجة ممكنة، حيث كانوا يستخدمون الوحشية الجسدية بين الصفع والجلد والركل على المؤخرة ضد من يرفض تنفيذ أمر ما أو حتى يتجرأ على النظر إليهم نظرة عتاب. أما بالنسبة للإهانات العنصرية التي ما فتئ آل تاربي الأب والابن يطلقانها باستمرار، والتي لا تختلف عن تلك التي يطلقها” البيض” الآخرون في المستعمرة، وإنهم دائمًا ما ينسبون تيليماك إلى “جنس متوحش” يتجاوز حدود الإنسانية.
حتى في السجن، لم يتقبل تيليماك الوضع الذي آلت إليه حالته. وبدعم من شريكه في الجريمة، سيريل، استخدم كل الحيل الممكنة للبقاء على قيد الحياة وتحسين حياته اليومية. فهو يلتقط الثمار الناضجة المتساقطة على الطرقات أثناء العمل الخارجي، ويخفي الملابس التي سرقها السجناء الآخرون في خزانة السجن. يستغل تيليماك أيضًا وقت راحته في أيام الأحد أو غير أيام العمل لبناء علاقات مع العبيد المحتجزين الآخرين، فيلعب الورق أو النرد، أو يغني ويرقص على إيقاع السيجا [وهو شكل تقليدي لموسيقى كان مرتجلا إلى حد كبير وعاطفيًا للغاية ويعبر عن محن الشعب المقهور والمستعبد]، أو يتحدث عن مستقبل أفضل أثناء تدخين سيجارة صغيرة، كان حازماً وجريئاً، يغتنم كل الفرص المتاحة في السجن، مثل تلك التي كانت متاحة في الثامن من نوفمبر/ تشرين الثاني 1821، للهروب.
على الرغم من غرابة الأمر، إلا أن تجربة تيليماك في السجن ليست استثنائية بأي حال من الأحوال. إنه مجرد سجين واحد من بين آلاف وآلاف العبيد الذين سُجنوا في أحد السجون العامة في جزيرة بوربون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وعلى الرغم من حجم الظاهرة، إلا أن هذه الصفحة المظلمة من تاريخ فرنسا والإنسانية لا تزال مجهولة حتى اليوم. بعد مرور أكثر من أربعين عامًا على نشر كتاب (المراقبة والمعاقبة Surveiller et punir (گاليمار، 1975) للفيلسوف ميشيل فوكو، والذي أطلق بحثًا حول تاريخ السجون والسجناء في فرنسا والعالم الغربي، لم تنجز حتى الآن أي دراسة مهمة حول تاريخ السجون والسجناء في فرنسا وعلى نطاق أوسع في العالم الغربي. وعن حبس العبيد في المناطق الاستعمارية أو ما بعد الاستعمار. من المؤكد أنه جرى تناول هذا الموضوع في منشورات أكثر عمومية حول الرق في الولايات المتحدة والبرازيل وجزر الهند الغربية البريطانية والفرنسية، ولكن هذه الكتابات اُختزلت إلى بضع صفحات في فصل واحد*1. ولذلك يُعدّ هذا الكتاب (حياة العبيد في السجن) لبرونو ميّار ككتاب جديد في هذا الباب.
هناك سؤال يثير بلا شك القارئ. لماذا يُحتجز العبيد لعدة أشهر، وأحيانًا سنوات، وأحيانًا مدى الحياة، في السجون العامة في جزيرة بوربون؟ وفقًا للمرسوم الصادر في ديسمبر 1723، المعروف باسم” القانون الأسود”، أن العبيد هم في الواقع “ممتلكات” “منقولة أو غير منقولة” حسب الحالة، وضمان حق الملكية بسيدهم حصرا. وبهدف الحفاظ على الأمن في المستعمرة ولتأكيد شرعيتها، مارست السلطات البوربونية، التي تمثل “التوحش السياسي” والتي تجمع بين إداريين من المدن والأعيان المحليين، في وقت مبكر جدًا سلطات “الشرطة والعدالة” على العبيد المشتبه بارتكابهم ببعض التجاوزات. وبسبب حيرتهم بشأن فعالية التشويه الجسدي وعقوبة الإعدام، فقد أوقفوها وبدؤوا في الاعتماد بشكل كبير على السجن كوسيلة للعقاب، وخاصة عندما استعادت شركة الهند الشرقية في 5 نوفمبر 1767 جزيرة بوربون الفعلية لصالح العهد الملكي الفرنسي. ومع ذلك فقد ظل “الحبس الكبير لـ “ السود والزنوج“، كما كان يحلو للسادة أن يطلقوا على أسراهم، مقترنًا بالعقاب البدني حتى مرسوم التحرير الذي طبقته الحكومة المؤقتة للجمهورية في 20 ديسمبر / كانون الأول1848. وبوصفهم” جسدًا “ خياليًا خاضعًا بشكل دائم لأوامر الآخرين،
ولكن هذا ليس بالأمر الهين. كان على سلطات بوربون التعامل مع قوتين مستمرتين، ولكنهما متناقضتان. فمن ناحية، شجعت السلطات الفرنسية، من خلال قوانينها وتعاميمها وإرسالياتها، حاكم جزيرة بوربون وإدارته المحلية على تطبيق نظام سجن أكثر تنظيماً، ولكن أكثر صرامة. وكان ممثلو الأمة المنتخبون ووزراء البحرية الذين تعاقبوا على الحكم خلال هذه الفترة، يأملون أن يؤدي السجن إلى تشديد العقوبة على العبيد على نحو أكثر حزماً واصلاحهم إذا اقتضت الضرورة، لضمان النظام العام في المستعمرة. من ناحية أخرى، مارس السادة ضغوطًا مختلفة على المؤسسات المحلية لاستعادة “ممتلكاتهم” بأسرع وقت ممكن و”في الحال” بعد ما وصفوه بأنه “اغتصاب”. وخلال هذه الفترة، طالبوا بتوفير رعاية لعبيدهم في السجون بتكلفة أقل تقريبًا مماثلة لتلك التي تطبق في ممتلكاتهم. ومن هنا، يجب على الإجراءات القمعية التي تنسقها السلطات البوربونية أن توفر توازنًا بين المبادئ، التي يدافع عنها البعض والمصالح التي يتقاسمها الآخرون. ولما كان الحفاظ على مجتمع العبيد يشكل المعيار المشترك بين السلطة العامة والسيادة المحلية، فقد وقع شكل فريد من أشكال القمع في السجون على عبيد جزيرة بوربون بين عامي 1767 و1848
مثلما لم يستسلم تيليماك، فإن العبيد المحتجزين نادرًا ما يستسلمون لنوع من الموت الاجتماعي في السجون. بفضل قدراتهم وامكاناتهم على العمل، فهم يتكيفون في البداية مع نظام السجن، ولكنهم يواجهون، سواء بشكل فردي أو جماعي، كل أنواع التكتيكات لتجاوز قيود الاحتجاز، بدءًا من تلك القيود التي تتعلق بمجموعة الأدوات القانونية إلى بنية الجزاء من دون أن ننسى أدوات التأديب. فضلا عن ذلك، أنهم يقيمون علاقات محددة، لكنها غير متكافئة، وليست أحادية الجانب أبدً، مع الحراس وبشكل أوسع، مع جميع اللاعبين الخارجيين (القضاة، الأطباء، الكهنة، إلخ، الموجودين على جانبي الجدران. ومن هذا النطاق الواسع للتفاعلات البشرية ظهرت علاقات قوة معقدة، تتأرجح بين الإذعان والمعارضة، ولكن أيضًا في شكل المعاملات.
تستكشف هذه الدراسة أيضًا العالم السري” للسود والزنوج” في السجون. وتبحث في اتجارهم بالضروريات الأساسية، ومكائدهم للهروب من العمل الإجباري أو حيلهم الخفية لممارسة عباداتهم المحلية. ويبحث أيضا في عمليات الاغتراب والتهجين والتعبيرات الثقافية المضادة لممارساتهم الاجتماعية وتعبيراتهم الثقافية. بل أكثر من ذلك، يبحث في الاستعدادات والآليات الكامنة وراء هروبهم المدهش الذي يحبس الأنفاس، وهو يقيس بذلك تضحياتهم الذاتية وإيثارهم في التغلب على حزنهم وخوفهم ومعاناتهم في تلك الظروف الخانقة. وهناك الكثير من اللحظات غير المعروفة في حياة هؤلاء العبيد المسجونين، الذين يقاتلون تارةً للحفاظ على إنسانيتهم وتارةً أخرى لاستعادة حريتهم.
تجمع هذه الدراسة بين منظوري التاريخ العالمي والتاريخ من القاع، وتستند في المقام الأول على التحليل المنهجي للمصادر المخطوطة والمطبوعة التي لم تُستغل حتى الآن. كما يفتح “نافذة على النصف الداخلي من حياة العبيد”، على حد التعبير القوي للمؤرخ الكبير جون دبليو بلاسينغام في كتابه الرائد “مجتمع الرق”. لقد بدأ هؤلاء الرجال والنساء المستعبدون منسيون ومغيّبون لفترة طويلة جدًا في ذاكرة شعب ريونيون والجمهورية الفرنسية، يخرجون أخيرًا من ظلال الماضي في أضواء التاريخ.
______________
صدر الكتاب في 15-02-2024
*1. ديانا باتون، لا رابط سوى القانون: العقوبة والعرق والجنس في تشكيل الدولة الجامايكية، 1780- 1870، دورهام، مطبعة جامعة ديوك، 2004، 312 صفحة.