بانتظار الحياة

ثقافة 2024/06/12
...

أحمد عبد الحسين

لعبٌ ولهو. كلمتان تتجاوران غالباً حتى كأنهما توأم، فما أن ترد إحداهما حتى تخطر الثانية في البال عفواً. لكنّ بينهما فارقاً جوهرياً وإن كان يجمعهما نحو من اشتراك. أو بتعبير المناطقة: بينهما “عموم وخصوص من وجه”.

الفارق الأساس أنَّ اللعب له قواعد بينما اللهو لا يستلزم ذلك. فلكلّ لعبة قاعدة “أو عدة قواعد” تخصها؛ يتسالم عليها اللاعبون، قد يكون بعضها معقداً ككرة القدم الأميركية التي أنا شخصياً لا أفهمها، وبعضها بسيط نسبياً كسباقات الركض، من يصل أولاً هو الفائز.

ارتباط اللعب بقواعد لا بدّ من الالتزام بها، جعل منه استعارة سياسية ناجحة فيقال “اللعبة السياسية” أو “اللعبة الانتخابية أو الديموقراطية”، لأنَّ دخول أيّ شيء تحت سطوة قواعد متفق عليها يضفي عليه نحواً من الجدية والصرامة. بالضدّ من اللهو الذي لا قاعدة له فهو فعل حرّ غرضه الوحيد تمضية الوقت باستمتاع.

حين ساوى فيتغنشتاين بين اللغة واللعب كان ناظراً في الأساس إلى هذا: إلى اتفاق الناس على حدّ معين من المسلمات في دلالة كلمات القاموس، كاتفاق لاعبي كرة القدم “التي كان يحبها فيتغنشتاين” على مقررات اللعبة، وإلى افتراقهم في حريّة تصرّفهم أحياناً بهذه الدلالات توسعة وتضييقاً مجازاً أو استعارة كما يحدث في الشعر، الذي يشبه المهارات الفردية لكلّ لاعب على حدة.

بحسب ذلك فإنَّ ثمرات اللغة كلّها نتاج لعب، والتفكير في آخر الأمر لعبة يتبارى فيها المفكرون كاشفين عن انفراداتهم الخاصة، لكنْ تحت سقف القواعد دائماً وأبداً.

نحن نضع اللعب غالباً في مقابل الحياة الحقيقية، في مقابل المعيش، كأنَّ اللعب استثناء على ما نحياه، وحين تنتهي لعبتنا نعاود حياتنا من جديد.

تغرب الشمس وتنادي الأمهات على أبنائهنّ للعودة إلى البيت. ينتهي زمن اللعب ويبدأ زمن حياتنا الحقيقية. لكنْ ماذا لو كانت هذه الحياة التي نظنّ أنَّ فيها من الحقيقة ما لا يجعلها لعباً هي أيضاً لعبة ونحن لاعبون حتى في بيوت أمهاتنا؟

في الآي القرآنيّ تقرير باتّ على أنَّ الحياة كلّها إما لعبٌ بقواعد وضعناها نحن، أو هي لهوٌ وخبط عشواء بلا ضابط سوى تزجية الوقت، “ وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ”. كلّ ما نفعله الآن إنما نفعله في فترة ما قبل المغيب. نحن نلعب لأنَّ أحداً لم يناد علينا للعودة إلى البيت. ومتى جاء النداء انتهت اللعبة لكن بانتهاء الحياة نفسها.

ولذا ورد لفظ “الحيوان” لا “الحياة” لأنَّ الزيادة بالألف والنون “وكل زيادة في المبنى دالة على زيادة في المعنى” تشير إلى جوهر حيّ لا يشبه حياتنا التي يستغرقها اللعب واللهو. هي كالزيادة في كلمة رحمن الدالة على صفو الرحمة وشمولها. لكنّ لهذا الأمر حديثاً آخر.