محمد طهمازي
إنَّ الباحث المتمعن في مسيرة فائق حسن الفنية يكتشف حقائق دُفنت تحت أكوام القراءات الخاطئة عن عظيم جهل أو عن سابق قصد لاختصار تجربته التشكيلية في مساحة جد ضيقة مختصرين إياها في عبارة (رسام الخيول) والحقيقة التشكيلية تقول غير ذلك تماماً برغم ما رسمه فائق من مشاهد للخيول.
يتطلب التخصص برسم موضوع كالخيول أموراً أولها أن يكون مضمون لوحات ذلك الفنان متجرداً بالدرجة الأولى للدراسات التشريحية للحصان وإظهار الملامح التفصيلية لجسد هذا الكائن كما هي الحال مع لوحات الفنان الإنكليزي جورج ستابس الذي تخصص برسم الخيول حتى أدق التفاصيل التشريحية ودرجاتها اللونية. من ناحية أخرى لم يكن استخدام الفلامنكي بيتر بول روبنس للخيول في العديد من لوحاته المشهورة، وبشكل تفصيلي لتشريحها وأحياناً بكثافة عددية، سبباً لتسميته (رسام الخيول).
لم يكن هذا الأمر في بال فائق حسن ولم يكن ضمن اهتماماته في شيء وهو يرسم أي لوحة للخيول بل كان يرسم لوحات تحتوي على خيول كجزء من موضوع رسم عادي حتى أنه لم يشغل نفسه بتفاصيل أي حصان ولم ينشغل بدراسته التشريحية التي لم نجد لها أي تخطيطات أولية حتى، بل كان ينفذ اللوحة بروح الملون الأكاديمي الذي من أصول حرفيته الفنية الابتعاد عن التفاصيل الكلاسيكية والاعتماد على المناخ اللوني القريب إلى الانطباعية مع تقليل التنوع اللوني لمحاكاة طبيعة البادية أو طبيعة عقل المتلقي، سيان. كما لا تمتلك هكذا أعمال خطاباً تشكيلياً اللهم سوى الخطاب الصوري في قالبه التجاري الذي ينسحب أحياناً لتكرار رسم ذات اللوحة حسب طلب السوق. أي إننا أمام فن تجاري يستجيب لرغبات وعقليات الزبائن في المقام الأول فيما تتراجع رؤية الفنان وإبداعه إلى مراتب تالية وقد تنحسر بشكل شبه تام.
مما لا جدال فيه هو حاجة الفنان لسيولة نقدية، بشكل دائم، تعينه ليس فقط على حياة كريمة بل وعلى التفرغ الحقيقي لإنجاز أعماله الفنية التي تحتاج منه لوفرة في المواد اللازمة لصناعة العمل الفني وبالتحديد التشكيلي، إضافة إلى الجهد والوقت. إنَّ السلطة الحاكمة ومؤسسة الدولة المختصة في هذا المجال قاصرة كل القصور عن أن تعي احتياجات الفنان الحقيقية وإن حصل لديها بعض الإدراك في هذا الجانب فسوف يكون وقتياً، ثم نراها تتعامل مع الأمر بلا مبالاة. وهذا يجعل الفنان في حالة عوز دائم فيلجأ لإنتاج أعمال تجارية لتغطية حاجته للسيولة المادية الموفرة لمواد الرسم فتذهب طاقته سدى وبالمقابل يتعامل معه (تجار الفن) كمنتج سلعي وليس كمنتج إبداعي مما يضرب مكانة الفنان المعنوية في المجتمع وينقص من دوره الثقافي الكبير والمهم في تشكيل الوجه الحضاري للوطن والشعب. وهذا ما جرى لفائق حسن.
يضاف إلى ما تقدم شهوة زوجته الفرنسية الملحة في طلب المال، والتي دفعتها للضغط عليه باتجاه إنجاز أعمال كانت رغم اللمسات التلوينية المميزة لفائق فيها لكنها تبقى أعمالاً يغلب عليها الطابع التجاري.
كان يمكن أن يكون رسم الخيول بالنسبة لفائق حسن مجرد تجربة مثل تجارب الخروج إلى طبيعة شمال العراق أو ريفه، بيد أنَّ عهد السلطة المدججة بثقافتها البدوية وطبقاتها المنتفعة منها والناشئة من ذات المستوى الثقافي والمناطقي أو المتملقة المقلدة لها قد ولد طلباً على نوع معين من المواضيع التي تتناغم مع ذائقتها البدائية وهو حال مستمر لليوم مع ذات الثقافة البدوية في بلدان مجاورة للعراق.
إنَّ انحدار المستوى القيمي للفن يكشف عن أزمة اجتماعية وثقافية كبيرة، سببها ضعف الجهات والمؤسسات الثقافية الرسمية والخاصة وقصور المسؤولين عنها والعاملين فيها عن القيام بدورهم، إن كانوا أهلاً لهذه المهمة أو حتى متخصصين، لأنَّ هؤلاء في الغالب نراهم أبناء ثقافة تزدري الفن وربما تحرمه في وعيهم الباطن، يضاف ذلك إلى الركاكة التي تتسم بها ثقافة وذائقة المجتمع بالعموم.
لقد عملت الكتابات الجاهلة على ترسيخ الاعتقاد بأنَّ تطرق فائق لهذا النمط من اللوحات يجعله “رسام خيول” قد ساهمت في إنتاج أجيال من ممتهني الرسم في العراق ممن يقدمون أنفسهم تحت مصطلح “رسام خيول” وهم ليسوا كذلك. وهذا أمر إن نظرنا إليه من الأعلى لوجدناه متناسقاً مع رؤية الثقافة البدوية التي ضربت بقوة ثقافة المدنية الناشئة في بلادنا والتي عملت على إعادة كتابة ما يسمى بالتاريخ العربي وفق منظورها الأعرابي، وشتان بين العربي والأعرابي، ولو درسنا هذا الغزو بعلمية ومنطقية بعيدة عن الشعارات والتنظيرات الفارغة والمتحججة لوجدناه عملية احتلال حقيقي وهو الأخطر والأسوأ من بين جميع الاحتلالات التي شهدتها بلادنا وتشهدها كونه يمثل زحفاً مدمراً على كل أوجه الحضارة والتراث العراقي واعتماد الرؤية العنصرية الضيقة لتاريخنا عبر التعتيم على كل المنجزات الفكرية والحضارية السابقة والتركيز على الجانب الحربي والبدوي الدموي من التاريخ فقط، وتبجيل الشخصيات المشابهة لرمز عهد الدكتاتورية وطمس كل رموز الفكر والفن. وليس أدل على هذا التوجه من تكليف فائق حسن برسم الخيول الثلاثة على أكبر فئة للعملة العراقية في حينها أو وضح لوحة خيول وبدو على غلاف الكراس اليتيم الذي صدر عن الفنان فائق حسن.
يقول الفيلسوف الفرنسي بول ريكور: “إذا كنت تريد تغيير تبعية الناس فعليك بتغيير خيالهم.” والتبعية هي الانجذاب نحو المثال الأعلى والانقياد الذوقي ووجهة الوعي المطروح للمتلقي وهي بمجموعها تشكل خياله ورؤيته ومفاهيمه التي ستحركه ارتقاء أو انحطاطا.