تنقيب سوسيوثقافي في رائعة الفنان الكبير سلام جبار (تسجيل خروج)
د. فلاح شكرجي
المقدمة:
الفن هو نشاط نوعي إنساني يعكس الأفكار في الأشكال ويُعّد من أهم وسائل الاستيعاب والتعبير الجمالي عن الحياة, وإلى هذا المعنى يشير الأديب العالمي (أوسكار وايلد) إلى الفن بأنه (الوسيلة الأفضل للكشف عن موقف الذات إزاء العالم) وعن نفس المفهوم يصرّح المخرج الإيطالي العالمي (فيليني) بقوله: (الفن هو سيرة الفنان مثلما اللؤلؤ هو سيرة المحار).
تتناول هذه القراءة الخصائص التشكيلية للعمل والوقائع الحياتية التي بررت إنتاجه, بنفس الأسلوب الذي اعتمده المفكر (شارل لالو) في دراساته عن الفن والمجتمع, وطروحات (مدرسة فرانكفورت) وأفكار (بيير فرانكاستل) التي اهتمت بدور الفنان الموازي لأهمية بنية العمل, لذا تعلن هذه المحاولة للقراءة والفهم تحفظاً صريحاً على (إعلان موت المؤلف) وبراءة العمل من مرجعياته واكتفاءه بذاته وتعالقاته, فالتعالقات البنائية رغم أهميتها إلا أن السوسيولوجيا والتداولية والهيرمونتيكا وحتى الماركسية وتصورات (جورج دوبي) أثبتوا أصالة وفاعلية العامل السوسيوثقافي المحيط بالفن إنتاجاً وتلقّياً.
رمزية العنوان:
العنوان هو العتبة الأولى لجمالية العمل ورمزيته بوصفه الدليل المرشد للثنايا والبواطن وبوصلة ما بين السطور وما وراء الكلمات,وهو نص مواز للنص الرئيسي بالتالي تبرز فاعليته في سبر الأغوار لبلوغ الطبقات الثاوية للموضوع, كما أنه ذو صلة وثيقة بأفق المتلقي, فتسجيل خروج مصطلح مستعار من تطبيقات رقمية معاصرة اأو مواقع إلكترونية, أي من الفضاء السيبراني وهي محاولة تتميز بالفرادة والطرافة, وعلى نفس المنوال اخترت أن تكون القراءة الراهنة بعنوان (تسجيل دخول).
تسجيل دخول لـ(تسجيل خروج):
تسجيل الدخول هي عتبة القراءة والفهم وتبدأ منطقياً بوصف العمل, إذ يتألف العمل من مشهد خارجي مضطرب ينقسم إلى مستويين: المستوى الأول القريب السفلي: هو فضاء معتم يحتشد فيه جمهرة من الناس, المستوى الثاني البعيد العلوي: مشهد سماوي حاشد بالغيوم وفيه يبرز من الأفق سلم طائرة يتزاحم عليه الناس.
تحليل العمل:
تنوعات المراكز المسببة لتسجيل الخروج:
المركز السياسي:
تتحكم السياسة بأحوال الاأمم ومصائرها وتتنوع بشكل عام ما بين أنظمة توتاليتارية وأخرى ليبرالية, أما الواقع السياسي الذي تسبَّب في تسجيل خروج جماعي فيمكن تلخيصه بتحوّلات حادّة طرأت على الواقع من ملكية فتية اغتيلت مروراً بجمهوريات متعابقة فتحت أبواب الاضطرابات والانقلابات والمغامرات والخسارات المتواترة وصولاً إلى عملية سياسية تتحرك بلا بوصلة, كل ذلك ترك آثاره وعواقبه في الوعي والسلوك الجمعي الذي توالت عليه الصدمات والنكبات وابتلي الإنسان بمبدأ (يد تعمل وأخرى تحمل السلاح) وارتهن مصيره بالقلق والعدمية وحوصر وجودياً بين البيريه والبسطال ونفسياً بين المخاوف والأوجاع وآل الأمر فيما بعد إلى جياع ليس لهم مدد وثروات منهوبة ليس لها عدد, فكان نزيف العقول وهجرات النخب التي شهدتها سنوات 1958, 1968. 1980, 1990, 2003 فكان لابد من تسجيل خروج
المركز التاريخي:
يتوارث الوعي الجمعي إشكالات التاريخ وحوادثه (الصحيحة والمزورة) وينقسم المجتمع حدَّ الاحتراب ما بين (مع) أو (ضد) أشخاص وأحداث ومواقف تاريخية تغذيها منابر الدين والإعلام, فتطوِّق الفكر بالماضي وصودر الحاضر وانعدمت احتمالات المستقبل وتعزز فعل قيود السياسة بفعل قيود التاريخ وصار تمجيد الماضي واجترار تفاصيله ديدن الحوار في البيوت والمقاهي والشوارع وأروِقة القرار وانتقل الحوار من الصراخ المتشنِّج للرصاص الطائش وكواتم الصوت دون الالتفات إلى إشكالات الواقع ومحاولة تدارسها والإفلات من قسوتها, فكان لا بد من تسجيل خروج.
المركز الديني:
سعى الخطاب الديني إلى توريث الأحقاد وإشاعة الإحساس بالعجز عن التغيير, ومفهوم الاتكال على الله في الصغيرة والكبيرة والاعتماد على الدعاء ومدد السماء واستثمر المنبر سلطته لتكريس مفاهيم التبعية للولي والخضوع للحاكم وتفويض الأمر للخالق وتحسين صورة الفقر والموت فداء للوهم وامتنع الكهنة عن الخوض في القضايا التي تشيع الأمل وتشحذ الهمم وتحفز على العمل والإبداع والسعي والتفاهم بالحسنى والحقوق الأساسية وإغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب وقبول الآخر شريك الجغرافية والتاريخ فتعمَّقت الهوَّة بين فئات المجتمع وصار الواحد منا يحمل في الداخل ضده وإزاء هذا الوضع المتأزم كان لزاماً تسجيل الخروج.
المركز الاقتصادي:
رغم التنوع الفريد للثروات إلا أن المستوى المعاشي للفرد لا يتناسب مع الأرقام الفلكية لعائدات النفط ولم تهتم الحكومات بتفعيل القطاع العام (آلاف المصانع خارج الخدمة ومعطَّلة إلى إشعار آخر) وتم تخصيص معظم الميزانيات الانفجارية للإنفاق العسكري والأمني والاستخباري بالرغم من أن الوضع العام لا يوحي بضرورة هكذا إنفاق لا جدوى منه, بالمقابل تمت خصخصة التعليم بمختلف مراحله وانتشرت المستشفيات الاستثمارية الجشعة ولم يحظَ القطاع الخاص بفرص استثمارية مناسبة إلا ضمن شروط (خاصة) وشاع الاستهلاك بدل الإنتاج والاستيراد بدل تحقيق الاكتفاء فانسحق الفلاح والعامل والتاجر الشريف والموظف البسيط تحت دواليب السوق والأسعار, ومع تدفُّق الخريجين السنوي على أرصفة الطرقات وانتشار البطالة وتصاعد مستويات الفقر وتداعياته النفسية والأسرية والأمنية زاد الاحتقان مما استدعى تسجيل خروج.
المركز السوسيوثقافي:
من الحروب والمغامرات السياسية والحربية وتشنُّجات التاريخ والتجهيل الذي يبثُّه خطاب الدين وأزمات الاقتصاد الطاحنة والتحديات الخطرة التي يتعرض لها الفرد والأسرة وبالتالي عموم المجتمع, ساد الشعور بالعدمية والإحباط في ظل انعدام عقد اجتماعي عادل بين الحاكم والمحكوم, وانتفاء الدرس الأخلاقي للتاريخ وابتعاد المنابر عن قضايا الإنسان التي تؤثر فيه وعليه, انهارت فكرة المواطنة وانتشرت ظواهر سلوكية تؤشر المدى الواسع والعميق للخراب النفسي والاجتماعي والثقافي وفي ظل غياب الإرادة الواعية للإصلاح رغم كل القرابين التي زفت إلى مقبرة النجف, أصبح الانحراف والنزوع للقطيعة مع الحياة بظواهر مثل: الإدمان وارتفاع معدلات الطلاق والجريمة والاتجار بالمخدرات وتزوير الشهادات وحالات الانتحار والبطالة والتسوُّل والأمية والشذوذ والمحتوى الهابط في مواقع التواصل وتحولت فكرة الوطن إلى جحيم أحمر (ماعدا نقطة خضراء متحكِّمة) فكان لابد من تسجيل خروج.
من كل ما تقدم يتبين حجم وتنوع وشدة الإثارة التي تفاعلت في وعي الفنان ووفرت الدوافع الموضوعية لإنتاج العمل بهذه الكيفية الدرامية وبهذه الخارطة التي أسس بموجبها هندسة المبنى المزدحم للتعبير عن المعنى العميق.
هندسة المبنى:
لفهم المخطط العام لابد من تشخيص المحاور الارتكازية التي أسس بموجبها الفنان أرضية المشهد وطبقاته في (تسجيل خروج) من خلال خطة تعالق المبنى بالمعنى والتي تقوم على فهم مسبق لطبيعة الحدث التصويري واشتراطاته التعبيرية التي تحقق فعل تكويني راسخ وليس مجرد عناصر بصرية متجاورة وخالية من الجوهر الإبداعي, وهذا يستدعي الأمر فهم المقاربة المتحفية للعمل.
المقاربات المتحفية الكبرى:
يؤسس العمل في ملحميته شكلاً ومضموناً مقاربات متحفية تعيد للأذهان أعمالاً فنية عالمية خلَّدتها الذاكرة الإنسانية, مثل لوحة (إعدام الثوار للفنان غويا) لوحة (طوف الميدوزا للفنان الجريكو) لوحة (الحرية تقود الشعوب للفنان ديلاكروا) وهي أعمال ملحمية في تنظيمها ودلالتها وتاريخية في مكانتها تحتفي بها الأمم وتستلهم منها العبر والدروس لتعزز بقاءها وديمومة تقدمها, وهذه القراءة هي محاولة للاحتفاء بفنان ومنجز ننتسب إليه وينتسب إلينا وهي بالتالي حالة حضارية تبذل لكل المبدعين باستحقاق عال.
عناصر العرض:
تحتشد العناصر بصورة متجاورة على مستويين بصورة أفقية, كل منها مشحون بخصوصيته الحركية والتعبيرية,السمة الغالبة فيهم الاضطراب والتنوع الحركي والانفعالي, من أقصى اليسار رجل يرتدي ملابس داخلية ملونة ومن خلفه مسطرة قياس (كاللتي يستخدمها مهندسو المساحة) بوضع مغاير لطبيعة اشتغالاتها الواقعية وأطياف شخوص بأهمية أقل وضوحاً وإضاءة, وعلى أقصى يمين العمل حقائب سفر في عربة حقائب يقودها شخص مصاب برأسه وأسفلها شخص مسجَّى لم يحظَ بفرصة اللحاق بالآخرين فسجلت الأقدار خروجه بالكامل من العالم, ما بين الطرفين المشار إليهما في هذه التراجيديا يتوزع (الممثلون) وكما يلي: شخص أكتع يحمل تحت إبطه لوحة,يعلوه شكل امراة تحمل على رأسها ماكنة خياطة وللأسفل منه صندوق خضار بلاستيكي تقليدي وبداخله رأس تمثال أثري, شخص بدين متوتر نصفه العلوي عار والسفلي بنطلون أو شورت بلون أحمر يعلوه شكل شخص يرتدي زي الأطباء وتحته شخص يتوسل وأمام الشخص البدين المتوترهنالك شخص بملامح ضئيلة يغدر بآخر و يخترق ظهره بيديه المضرجة بالدماء وللأسفل منهما ساق بشرية مجهولة تطأ بلا مبالاة علبة كرتونية تضم العديد من الكتب أو الملفات والوثائق وللأعلى منهما شكل امراة حائرة بملامح مختزلة وشكل أم عراقية ريفية تحيط رأسها هالة من نور ثم يبدو الرجل حامل الجاكيت الاحتفالي وللأعلى منه ذلك السلم الخشبي المائل وللأسفل منه فتاة تبدو بثياب مدنية وحذاء أحمر مميز وهي تجثو على الأرض, وفي الأفق البعيد يتزاحم الناس على سلم طائرة لن تأتي.
المنظومة اللونية:
يتخذ العمل وضعه الخاص وتأثيره الجمالي من الطريقة المتفردة في ضبط الألوان, فللخطوط والألوان قوى يكمن في توظيفها الصحيح سر الإبداع, هذا الدرس الذي استوعبه الفنان في أفقه المعرفي الواسع في حقل الاختصاص من الفنان (ماتيس) فالثراء اللوني يفضي لكمال شكلاني كما يشير الفنان (سيزان) الكبير, وهنا تتجلى بوضوح قدرة الفنان (سلام جبار) على جعل الفكري مرئياً من خلال منظومة اللون في هذا العمل
رمزية الإضاءة:
رب تساؤل مشروع تطرحه الملاحظة الدقيقة, من أين يأتي الضوء في هذا الحيِّز المكاني المزدحم المعتم؟ إنه الكشاف اليدوي المتخيل الذي يسلطه الفنان على الحدث التصويري وهو الشاهد بجدارة على اأحداث العصر, هو ليس إضاءة بالمعنى الفيزياوي فالفنان يدرك أننا نحيا في عالم كامل من الرموز كما يشير (سيجموند فرويد) لذا يستخدم الضوء افتراضياً كرمز للكشف الوجداني عن الحدث وفي هذا التنظيم الفذ تتعاقب مستويات الضوء والعتمة بدقة تمنح العناصر حضورها الدرامي في الجو العام للعرض وتسند كل منها مجاوراتها تركيبياً مثلما تتمفصل معها دلالياً, فأرضية العمل معتمة والشخوص مضائين بسطوع يغيّب عن قصد الكثير من تفاصيلهم الحسية مكتفياً بحضورهم الرمزي, أما في الكتلة الرئيسية للعمل فإلى اليسار ضوء ساطع على الشخص الذي يرتدي سروالاً بشكل لوحة فان كوخ وللخلف منه أشباح شخوص تلفُّهم العتمة وفي اليمين شبه عتمة وإنارة قليلة بالكاد يبدو فيها سائق عربة الحقائب والميت والفتاة, وللخلف البعيد عتمة يبرز منها سلم الطائرة والحشد الذي يزدحم فوقه ومن خلفهم المشهد الدرامي للسماء في سينوغرافيا قصدية محسوبة بحرفية عالية تشفِّر دلالة العرض من خلال دقة الميزانسين.
الميزانسين:
يبدو تسجيل خروج كأنه لحظة متجمدة في عرض لـ(مسرح موسكو الفني) أو عمل للفنان الكبير (قسطنطين ستانسلافسكي), يتجلى هذا الجانب الابتكاري من خلال التواصل السلس بين حركات الأجساد والتأثير المتبادل بينها وبين الفضاء, للميزانسين أهمية كبيرة في سياق العرض وعلاقته بزمان ومكان الحدث التصويري بتأثير مواز للسيناريو في الدراما والإيقاع في الموسيقى فهو المسؤول عن إغناء الجوهر الانفعالي للعمل إنتاجاً وتلقياً, ويشير الفنان (الكسي بوبوف) إلى أهمية القدرة على التفكير من خلال الأشكال والصور التي ينظمها الميزانسين من خلال طبيعته وشكله التخطيطي وإيقاعه عن الفكرة وبما يحقق إظهار الحدث التصويري بشكل فاعل, وإلى ذات المعنى يشير الراحل الكبير الفنان (فاضل خليل) إلى أنه من الخطأ أن نتصور أن العناصر الشكلية في العمل الفني لا تخضع لمخطط ينظمها وفق آلية ميزانسين محددة ومحكومة بالمضمون وطبيعة الأشكال لذلك نجد أن الأشخاص في تسجيل خروج تؤدي حركة مشتركة مبررة وهادفة كأنها جوقة موسيقية سيمفونية أو خشبة مسرح شكسبيري.
سيمياء الأشكال:
بعد تخطي المستوى التركيبي بما تم تأشيره من زخم العناصر البصرية, بلغنا العمق مع الفيوض الرمزية والتعبيرية للعناصر الشكلية في المستوى الدلالي وما يتضمنه من أفكار تبرز في مقدمتها:
فكرة الاكتئاب الاضطرابي: هي الحالة المهيمنة على العناصر التي تمثل الحدث, إذ يحمل كل شخص همَّه الذاتي والأسري والمعاشي والوجودي ومعاناته وحركته وانفعاله ونصيبه من المحن التي جعلته يشترك مع الآخرين في المأزق زماناً ومكاناً وحلماً بالخلاص, كذلك تبدو المراة مضطربة في اتجاه جسدها واتجاه رأسها للخلف كتعبير عن التخبط والحيرة وانعدام التوازن والقلق.
فكرة دراما المكان: أو الموقع المحدد (وهو مصطلح استعيره من مقدمة مسرحية كرومويل لفكتور هيجو) وهوالمكان المتحرر من حدوده الجغرافية ليشترك مع الزمن الافتراضي للحدث التصويري في استكمال أركان فضاء الفعل الإبداعي, أي إنه بحسب أستاذ المسرح الفرنسي (مارسيل فريدفون) أصبح عاملاً تحريضياً ومبراًر لتسجيل حالة خروج في عمل الفنان (سلام جبار).
فكرة المصير: وتتمثل بالجسد المسجّى على الأرض بلا حول ولا قوة في عتمة دراما المكان والحدث, إن الخط الوهمي الواصل بين أقصى اليسار وأقصى اليمين يرسم ملامح خط الزمن في هذه الأحداث من خلال تقابل الحياة بالموت, وهو نفس الدلالة التي يقدمها مشهد الطبيب العاجز والمريض المتوسل.
فكرة الحنين: التي تمثلها الفتاة المنحنية على الأرض بحذائها الأحمر وبجمالها الذي حجبته العتمة وكشفه التعبير,واحدة من آلاف مؤلفة ممن بقين بلا عديل روح أو شريك حياة بسبب المغامرات العديدة التي ضاع فيها أقرانهن من الشباب, تحاول الفتاة الشرب من حيث لا ماء لكنها تسعف ذاكرتها المعبَّأة بالحسرة على ما ضاع ومن ضاع بآخر ذكرى قبل تسجيل الخروج.
فكرة أزمة الذوق: هي أزمة متعددة الأوجه تتحمل عبئها أطراف عدة: كالوضع الاجتماعي والتربية المدرسية والخطاب الإعلامي, وتتمثل في هذا العمل بالرجل الذي يرتدي ملابس داخلية ملونة (بلوحة الفنان فان كوخ الشهيرة وهي قيمة جمالية عالمية لا تليق أن تكون بهذا الشكل) ويتحدث بموبايل محشور بين رأسه وكتفه ويداه مشغولتان بالعمل على لابتوب في محاولة لتسجيل خروجه إلكترونياً, والآخر الذي يرتدي شورتاً أحمر كنموذج لقلَّة الذوق وانعدام الكياسة والاستخفاف بالاخلاق واحترام الآخرين.
فكرة الحواسم: ذلك الزلزال الذي قبّح وجه التاريخ (وهي استعارة من شعر الراحل الكبير مظفر النواب) بسلسلة حوادث قادتها أصابع خفية ونفذتها جموع الجياع والتي دمرت الأخضر واليابس وكشفت عن القوى المدمرة في النفس البشرية المنفلتة في ظل غياب القانون والدولة والتي يستحضرها الفنان بالأكتع الذي يحمل لوحة من بقايا المتحف المنهوب.
فكرة المجد الضائع: والذي يمثله رأس الملك سنطرق الشهير والذي أُعيد إنتاج حضوره الرمزي كشيء ملقى على الأرض في ظل ظروف تسجيل خروج والفوضى المصاحبة للحدث وهو يستقر في صندوق بلاستك أسود مخصص لبيع الخضار في إشارة للانقلاب القيمي في ذلك الظرف المحتقن.
فكرة الدموية: والتي يمثلها الشخص الذي يغتال مجاوره بيديه الملطخة بالدم والتي تخترق ظهر أخيه, وفيها استذكار لأحداث الموت على الهوية والاسم واللقب والمنطقة والعشيرة والمذهب والتي دنَّست الواقع لعدة سنوات.
فكرة الفقد العظيم: وهي ذروة الوجع في هذا الحدث الدرامي وتمثله الأم الثكلى التي تشير بيديها لعدد من فقدتهم في المغامرات الحربية كتعبير عن مصابها الكبير الذي حولّها من حضور إنساني نمطي إلى مصاف القديسين والأولياء من خلال هالة الضوء التي تحيط رأسها دوناً عن الباقين.
فكرة العفاف: وتظهر بالعمل من خلال المرأة البسيطة التي تحمل ماكنة الخياطة فوق رأسها كونها الوسيلة المتاحة للبقاء على قيد الحياة ورعاية الأطفال في ظل تغييب المعيل قسراً في الحروب أو السجون, هي الوحيدة التي تتجه عكس الباقين كونها بلا حول ولا قوة وأزمتها لا تسمح بترف التفكير بتسجيل خروج من المحنة.
فكرة تدنيس القيم: وتتمثل بمسطرة القياس التي يستخدمها مهندسو المساحة في البناء والتي جعلت قصدياً في العمل بوضع أفقي لتكون بمثابة عارضة خشبية كالتي توضع في مداخل الوحدات العسكرية في جبهات القتال في إشارة لحقيقة العسكرة التي طالت كل جوانب الفكر والحياة, وكذلك الكتب أو الوثائق المكدَّسة في صندوق من الكرتون كالذي يخصص لـ (بيض الدجاج) وتمتد ساق لشخص مجهول كي تطأه في تزاحم الحالمين بالخلاص.
فكرة الهامش: وهم شخوص تعمّد التنظيم البصري للعمل تجريد ملامحهم الأدمية مثلما سلبتهم الفواجع كل شيء, ورؤوس متناثرة تؤدي وظيفة الكومبارس في العرض.
فكرة التراسل: هي محاولة المحدود للتواصل مع المطلق وسعي العباد للجوء لربهم, سلم مرتفع نحو السماء بالدعاء بالأماني بالشكاوى بكل ما يطمئن المعذبون.
فكرة وهم غودو: (استعارة من مسرحية صاموئيل بيكيت) الذي انتظر الخلاص دون جدوى, كذلك في تسجيل خروج يتزاحم الناس في أفق الحدث على سلم طائرة لن تأتي وأمام بوابات الخروج المرقمة التي لن تفتح, على أمل أن تحملهم الأقدار إلى ملاذ آمن يسمح لهم بتسجيل دخول.
الخطاب العام:
من كل ما تقدم يتضح موقف الفنان (سلام جبار) من العالم في بعده المحلي (الوطن) بكل ما عاناه وابتلي به أو (ما اقترفته أيدي الناس) من خلال وثيقة صارخة جديدة ضمن سلسلة وثائق تبين للمجايلين وللقادم من الأجيال, ما كان وما وجب أن لا يكون, إذ تُعد الدراما المهيبة التي أتحفنا بها محاولة لتعزيز وتأثيث ذاكرة المتحف المعاصر بإضافة جديدة, وبـ (تسجيل خروج) حالة تمثيل الفكري بالرمزي والتعبير عما فعله الطغيان بالإنسان والمصالح بالمصائر والأسياد بالبلاد والعباد وهي بالتالي حالة إبداعية تكشف ما تصارع في الوعي وتمثل في الأداء, الملامح العامة للعمل حققت جدلية عميقة بين (هزائم الواقع) على امتداد خارطة التاريخ والجغرافيا و(انتصارات الفن) على امتداد خارطة لوحة (تسجيل خروج) التي وثقت المسكوت عنه وحطمت تابوهات الرقيب الأمني.
ختاماً, قدم هذا النص التنقيبي فهماً لمنجز الفنان (سلام جبار) الفني من منظور سوسيوثقافي, فالتحرك من الثقافي لاستيعاب الجمالي يقود إلى التحرك من الفني لاستيعاب الحياتي كما يزعم (روجيه باستيدا), والقراءة هذه أشبه بحالة (تسجيل دخول) للوحة (تسجيل خروج) وهي رصد ممنهج للمبررات الذاتية للفنان وتنوعات الحقل المرجعي الذي يثري مخيلته وطبيعة الدوافع السايكوثقافية العميقة الفاعلة في تأسيس ملامح الصورة الذهنية لديه وقدرته الأدائية الاحترافية في التحكم بأدواته لإنتاج هكذا عمل, فضلاً عن أوراق ثبوتية في التاريخ والوجود تبرر للمسحوقين ظلماً, فرارهم وقرارهم بـ(تسجيل خروج).