الـ[رِتْرُوتُوبِّيا] والهُويَّة في التَّساؤل عن واقعٍ خارج الواقع

ثقافة 2024/06/12
...

محمَّدحسين الرفاعي

[I]
أعني بالريتروتوبيا، كما استخدمها ووظفها في أوَّل الأمر كارل مانهايم في ضرب إعادة فهم اليوتوبيا على أنها خارج الزمان؛ وخارج الوحدة الزمانيَّة التي من شأن الماضي والحاضر والمستقبل. ولست أقصد بها ما ذهب إليه زيغموند باومان بأنَّها نفيُ [النفي- لنفي- اليوتوبيا- لـ- ذاتها] negation – negation of utopia’s negation، في كتابه الأخير الصادر عام 2017، ضمن تصوُّرات العودة إلى ما كان يستحيل العودة إليه. ما أعنيه ببساطة هو عودة اليوتوبيا بتوسُّطِ الآيديولوجيا، ولكن أيضاً بتوسُّط ذاتها، على هدي الفهم الواقعيّ الجديد للهوية من حيثُ إنَّها تتوفَّر على إمكان أن تأتي إلينا من المستقبل.

[II]
لقد فتحت الديستوبيا Dystopia هذا الإمكان وحافظت عليه في منبت ماهيَّةِ اليوتوبيا. لماذا؟ لأنَّ واقعاً مجتمعيَّاً مأساويَّاً، مُزرياً حدَّ أنَّه تنكره الأغلبية في المجتمع، على نحو ثقافي واِقتصادي وسياسي، أي الأغلب الأعم الذي يشكل المجتمعيّ ويظفر بتمثيله في كل ظرف كاشفٍ لبنية الثقافة- والاِقتصاد- والسياسة فيه، أو للعلاقات بينها، ووَحدة العلاقات بينها، أي الآيديولوجيا المجتمعيَّة، إنَّما هو واقعٌ قائمٌ على يوتوبيا تُحدَّد اِنطلاقًاً من كونها واقعٌ أصليٌّ يأتي إلينا من المستقبل. وهكذا، لا نفهم الرِتروتوبيا Retrotopia على أنها ارتسامٌ لصورة المجتمع فحسبُ، ولا هي يمكن أن تُفهم على أنها اليوتوبيا وقد قامت على نفي نفي النفي الذي لذاتها، بتصور ماركسي محدث، ولا أيضاً عودة اليوتوبيا على نحو زماني، إنني أشير إلى عودة اليوتوبيا بوصفها إحدى النتائج غير المتوقعة للديستوبيا المجتمعيَّة، وهي بذلك، لا يمكنها أن تنفصل عن الآيديولوجيا المجتمعيَّة. لأنَّ فيها، روح المستقل على نحو مكثَّف.

[III]
إنَّ الزمان المكثَّف في اليوتوبيا، يأتي ويعود إلينا من جهة أنَّه يريد أن يؤسِّسَ نمطَ علاقة جديدة بالمستقبل، مستقبليَّاً. إذن الرِتروتوبيا هي الذِّهاب إلى المستقبل على نحو واقعي، بالمستقبل، له، وفيه، ومنه. وهكذا، نكون في الرِتروتوبيا أمام حيثيات وجودية- مجتمعيَّة لها هي أربع: في المستقبل، وبـه، ولـه، ومِنه. إنَّ ما يجعل من اليوتوبيا عائدةً إلينا على نحو جديد، وهيئات وأشكال وتمثُّلات جديدة، لا يتعلَّق بالمجتمع، وما هو مجتمعيّ، بقدر ما هو يرتبط بذاك التَّطلع المجتمعيّ الذي يريد بناء المستقبل. أي بذاك [الـ- ينبغي- أن- يصير]- يحدث- يقع- يظهر- يكون. إنَّ تصيُّر المستقبل في الحاضر، خلافاً لما يُتصوَّر، ليس من جنس المستقبل، بل هو يتوفَّر على إمكان أن يأتي إلينا من سيستم معرفي ما، أو منظومة معرفية قائمة بذاتها، في الماضي.

[IV]
إنَّ اليوتوبيا إنَّما هي شبكةُ مفاهيم، وشعوريَّاتٌ ومعقولاتٌ، قَبلَ أن تكون أماني، وآمالاً، وتطلُّعاتٍ. وحتَّى قبلَ أن تكون ما ينبغي أن يكون. إنَّها نمطُ وجود، وحقل كينونة، يأخذان معهما الإنسان إلى ضروب الفعل القائمة على [الـ- ما- يجب- أن- يأتي]، أي يقع، فيصير.  لكن اليوتوبيا لا تأخذ معناها، ولا يمكنها أن تسوِّغَ وجودها إلاَّ متى تم الظفر، قبليَّاً، بفهم الآيديولوجيا المجتمعيَّة، في أنها وفي كيف أنها كذلك.
[V]
إنَّ الآيديولوجيا المجتمعيَّة تقع على رأس المصادر التي تُنتج الهُويَّة. وهكذا هي تُقدِّمُ نفسها على أنها ترسم معالِم المستوى العامّ للهُويَّة المجتمعيَّة، دائماً قَبْلِيَّاً. فإذا كان المستوى الأعم الذي من شأن الهُويَّة يتمثَّل في الإحالة إلى [الوجود- معاً]، في إمكانِ تأسيسه، وكيف تاسيسه، ضمن حقل الاِتفاق بين الفاعلين المجتمعيِّين على الاِختلاف والتعدُّد والتنوع، وحدودها، وإذا هو كان ضمن أنماط وكيفيات الصلة بالعالَم، وإمكانات بناء العلاقة مع العالَم، وايضاً، وفي الوقت عينه، إمكانات وكيفيات وأنماط قطع العلاقة مع العالَم، فإنَّ المستوى العامّ في الهُويَّة، بتوسُّطِ تعيين الآيديولوجيا المجتمعيَّة لها، يتميَّزُ بأنَّه لا يكشف عن ذاته إلاَّ عَبرَ المنعرجات المجتمعيَّة التي تتطلَّب موقفاً بعينه. وهكذا، نجد المستوى العامّ في الهُويَّة، مرتسماً على نحو أولي، ضمن ثلاث طبقات، تشكل في وحدتها، حقلاً من التعالق داخل الهُويَّة، وتأسِّسُ لتخارجها. إنَّها طبقة [النموذج- المثال Ideal-Type] لليوتوبيا داخل الهُويَّة، وطبقة اليوتوبيا في مضامينها الأنطولوجية التي تتجسَّدُ على هيئةِ أنَّها فاعليَّات مجتمعيَّة، وطبقة الوَحدة بين اليوتوبيا والآيديولوجيا والديستوبيا. تشكِّل هذه الطبقات الثلاث رسماً أوَّليَّاً للدرب إلى الرِتروتوبيا. لكن، هذه المَرَّة، تُفهم هذه الأخيرة في أفق الهُويَّة وقد صارت مفهوماً مُقبلاً إلينا على هيئة رفض الواقع المجتمعيّ القائم، من قِبَلِ ذوات فاعلة مجتمعيَّاً، هي تصنِّفُ نفسها على أنها خارج الواقع المجتمعيّ؛ أو لا تكون.

[VI]
إنَّ [خارج- الواقع- المجتمعيّ]، خلافاً للتصُّور الهيغلي البسيط، القائم على ثُنائيَّة [الفكرة- والممارسة]، وأوَّليَّة الفكرة على الممارسة؛ وأيضاً خلافاً لثنائية [الداخل- والخارج] الهيغلية، وأوَّليَّةُ الداخل على الخارج، إنَّما هو، أي [الـ- خارج- مجتمعيّ]، لا يُؤخَذُ، كما فهمه كارل مانهايم على أنَّه أنتلجنسيا بعينها، طبقة مثقفين ناقمين على السلطة؛ بل هو يُؤخَذُ من جهة الظفر بمفهوم الرِتروتوبيا. وبالتالي، لا يقع [الـ- خارج- مجتمعيّ] في الخارج المكاني، والزماني الذي نفهمه، على نحو كرونولوجي، أو حتَّى ضمن جغرافيا الفكر؛ لا؛ بل هو له وجود مجتمعيٌّ يوميٌّ، وبذا، هو فاتحٌ لإمكانات المستقبل، على نحو مستقبلي جديد، في كل مرَّةٍ، وفي كل الأحايين.