الأفغاني في العراق

آراء 2024/06/12
...

 أ.د عامر حسن فياض

الى جانب الاتجاه المحافظ السائد والمسيطر على المؤسسة الدينية الرسمية في العراق العثماني، برز اتجاه آخر مثله عدد من العلماء الذين كانوا معرضين لاضطهاد السلطة العثمانية والإبعاد عن مؤسساتها احيانا، وكان هؤلاء يُعبرون عن نزعات إصلاحية تجديدية تستند إلى  الموروث الإسلامي.ان الملامح الفكرية التجديدية الاسلامية كان لها تأثير ايجابي كبير في تهيئة الأذهان، لتقبل الأفكار الحديثة، لا سيما أنها كانت قد تغذت على افكار تيار اسلامي تجديدي ظهر في مدن عراقية رئيسة أخرى، خاصة في النجف وكربلاء وسامراء التي شكلت مراكز ثقافية دينية للمسلمين، ومقراً للمرجعية العليا ومصدراً للمجتهدين،
 كما زخرت بأعمال ونشاطات فكرية ومواقف سياسية لعدد من كبار العلماء والمجتهدين تنصب في الدعوة لنهضة جديدة للإسلام ومقاومة الاستبداد.
لقد برزت الجماعة الاسلامية في هذه المدن لتحمل مثل هذه الأفكار، نتيجة لواقع معطى جعلها في طليعة حركة التجديد الاسلامي، والذي يلاحظ ان مناهج وطرق التدريس في الحوزات العلمية، كما هو الحال في النجف مثلاً، كانت قد شكلت في خضم التحولات الفكرية والسياسية العامة نهاية القرن التاسع عشر، منهجاً مهماً لمعالجة القضايا المعاصرة المستجدة، وأبرزت قادة إسلاميين مجددين.
وليس من الغريب ان يكون الافغاني أحد هؤلاء القادة المجددين، الذين احتضنتهم هذه المدن العراقية المقدسة، فدرسوا من علومها، فالافغاني، الذي برز كزعيم لحركة إسلامية أواخر القرن التاسع عشر، كان قد درس وعاش في مدينة النجف وكربلاء، وتشبع ذهنه في مناخاتهما الفكرية، خلال الفترة التي ازدهرت فيها الدراسات الفلسفية والكلامية والاصولية.
وقد كانت مؤلفات الافغاني وخطبه اللاحقة لدراسته في هاتين المدينتين تتم – كما يستنتج البرت حوراني- عن معرفة أكيدة بالتراث الفلسفي الاسلامي، خصوصاً فلسفة ابن سينا، حيث كانت المعرفة بها – آنئذ- سهلة المنال في المدارس الدينية في النجف أكثر منها في المدارس الدينية في مدن أخرى.
وإذا كانت ظروف مدينة النجف لم تسمح حينذاك للافغاني بأن يقوم بالدور الذي قام به في القاهرة مثلا، فإن الذي يمكن استنتاجه هو ان انظمة ومناهج التدريس في الحوزات العلمية في النجف وكربلاء التي ساهمت بشكل اساس في تكوينه الثقافي والفكري فهي بذاتها مجال مهم لتخريج زعامات دينية فكرية سياسية بأنماط موائمة لظروفها التاريخية.
وهذا مايمكن ان نشهده من خلال بروز عدد من الزعماء المجددين في فترات مختلفة وقيامهم بدور الزعامة الدينية والسياسية في آن معاً.
أما الدور الذي قام به الافغاني في العراق خلال الفترة (1891- 1892)، فقد كان له أثر كبير على الحياة الفكرية والسياسية.
فقبل اقامته الثانية في العراق كان الافغاني معروفا لدى الاوساط المتعلمة في سائر المدن العراقية، لا سيما مدينتي النجف وكربلاء، كزعيم لحركة تجديدية اسلامية وذلك عبر مجلة (العروة الوثقى) التي كان يصدرها في باريس، ومجلة (القانون) التي تصدر بالفارسية في لندن ويساهم الافغاني في تحريرها.
أما نشاطه خلال إقامته الجديدة في العراق، فقد استمرت سنتين بدأها بتوجيه رسالته الشهيرة إلى  الشيرازي، ثم تمثلت في زيارته لكل من النجف وكربلاء وبغداد والبصرة، حيث قام خلالها بالدعوة للافكار التجديدية الاسلامية فأثر فيها على عدد من الشخصيات الاسلامية العراقية امثال محمد سعيد الحبوبي والسيد هبة الدين الشهرستاني والشاعر عبد المحسن الكاظمي.
والمهم في أمر الافغاني في العراق انه التقى مجموعة من الشخصيات العراقية، التي لعبت فيما بعد دوراً فكرياً وسياسياً، عبر دعوتها للتجديد في الفكر السياسي الاسلامي ومناهضة الاستبداد في الدولتين الإيرانية والعثمانية، والتي ستتضح معالمها بشكل بارز فيما بعد
بقليل.
ان دليل الجدل الخصب مع الافكار الجديدة التي اشتهرت به النجف على وجه الخصوص، كان يتمثل في تصدي علمائها للثقافة وللنظريات المادية الغربية بالدراسة والنقد. فقد ألفت عشرات الكتب حول ذلك، وباللغتين العربية والفارسية ومن هذه الكتب (نقد فلسفة داروين) للشيخ (آغا رضا الاصفهاني)، ويذكر الدكتور علي الوردي، انه عندما وصلت اعداد (المقتطف) التي نشر فيها (شبلي شميل) مقالات متسلسلة في شرح نظرية داروين، انبرى له عدد من علماء النجف يردون عليه، ويفندونها، وكان انشطهم في ذلك الشيخ الطهراني والشيخان جواد البلاغي والاصفهاني، حتى أن الاخير كان قد أرسل كتابه في نقد نظرية داروين لشبلي شميل نفسه.