النواب في حزنه.. مدينة تمنحك ألواناً لا تعرفها من قبل
سلوى عباس
مرت منذ أيام الذكرى الثانية لرحيل الشاعر مظفر النواب الذي تعرفت إليه بداية عبر قصائده التي شغف بها جيلنا كله، ومن ثم تعرفت إليه بشكل شخصي من خلال فعاليات أسبوع {المدى الثقافي} الذي كانت تقيمه دار المدى سنوياً في دمشق، والذي بدأت دورته الأولى عام 2000 واستمرت لعدة سنوات، حيث كانت الثقافة ما زالت تحافظ على ازدهارها، وكان للنواب حضور أساسي في كل فعالياته، فكنا من خلال جلساتنا معه وحواراتنا التي كانت تمتد لساعات طويلة نتعرف إلى شخصيته أكثر، حيث لامسنا روحه الطفولية رغم الألم الذي يجللها، وكأن هذه الجلسات كانت تخفف بعض همومه ومواجعه.
كل أمسية أحياها مظفر النواب كانت معمدة بروح الشعر يهديها لجمهوره التوّاق للقائه، وكان -وكما هو دائماً- يحتار كيف يرحب بضيوفه، وكيف يبدأ أمسيته معهم، لكنه دائماً كان لديه نشيده الخاص، فهو شاعر تخضّر كلماته أملاً، وقصائد من زيزفون، وغيمة عطر، قصائد تتسامى في بهائها الحالم فتسحرنا وتودعنا في فردوس جميل يسكب في قلوبنا ربيعاً أخضر، ويغرق أرواحنا بالسلام، إذ يعتمد الجملة الشعرية المكثفة في مناجاته لروحه، مجللة عبارته بغموض يحّث المتلقي على سبر معانيه في محاورة للقصيدة يستوضح من خلالها مقاصد الشاعر التي لم يكشف عنها، إذ حافظ في قصائده على تميز صوته الشعري بنكهته الخاصة التي يختلف فيها عن مجايليه من الأصوات الشعرية الأخرى ببقائه ضمن بوتقة ذاته ومعاناته التي يحملها صوراً حياتية تنطبق في ملامحها وسماتها على ما يعتمل في دواخلنا من مشاعر وأحاسيس، ربما كان شاعرنا أقدر منا على إدراكها والبوح بها، فاتسمت لغته الشعرية بصور مدهشة وجديدة عبر مفردات وتراكيب سهلة وبسيطة استطاع من خلالها رسم لوحات شعرية لامست وجدان الحضور وحلّقت بهم في فضاءات الشعر الجميل.
وإذا كانت وظيفة الشعر تقوم على البحث والاكتشاف فإننا نراها لدى الشاعر النواب تشكل بوحاً من شغف امتلاك الحقيقة، التي يشكل منها ربيعاً من شعر، فماذا نحدّث عنه وعن تألق شعره وإبداعه حيث كان يحتضن لجمهوره ومحبيه في كل أمسية لقاء من شوق حميم يلتقونه فيه، فقد
كان النواب يغيب لفترات طويلة عن جمهوره، لكنه في كل عودة كان يعود ليراقص الشعر على شفتي قرائه وجمهوره، ويداعب اللغة ويصنع المفردات باقة من ورد، عبر أسلوبه في صياغة القصيدة، فيمتعنا بشعره، ويعلمنا كيف نقرأ وماذا نقرأ، ففي قصيدته "الباب" يقول:
"الآن، وقد غابت شمسي، أتذكَّرني/ الآن، وقد مالت أغصاني وتنكَّر قلبي لي، أتذكَّرني/الآن، وقد أُقفِل دوني باب الأبواب وغادرني أصحابي/أتفقَّدني/فأراني أعتمتُ وصرتُ وحيداً".
القصيدة الأولى للنواب هي "الريل وحمد" هذه القصيدة التي تشكل محطة أساسية في تاريخ الشعر الشعبي أو العامي في العراق والبلدان العربية، وعن ظروف كتابته لهذه القصيدة التي ظلت مرتبطة بوجدان جمهوره، قال النواب: "الريل يعني في لهجة جنوب العراق القطار، وقد كتبتُ هذه القصيدة ولم يكن يدور في ذهني أني سأطبعها في يوم ما، أو أنها ستنتشر هكذا، وتثير كل هذا الاهتمام، كتبتها لأنني شعرت بها، شكلت لي بهجة داخلية، غناء وجدانياً، وكنت أكتبها في ظروف خاصة واضعاً القلم والورقة تحت وسادتي ناهضاً ليلاً لأدوّن بعض المقاطع في الظلمة ثم أنام"، مضيفاً :"كتبت هذه القصيدة عام 1956 وأكملتها عام 1958، وأخذها الصديق علي الشوك من دفتري ثم نشرها دون علمي، وكتب عنها الشاعر سعدي يوسف ما معناه أن شعرنا العربي تسيطر عليه الهوية العالمية وهذه القصيدة زهرة نادرة في بستان شعرنا العربي، وأعتقد أن سعدي يوسف لخّص قضية أساسية هي أن طبيعة هذه القصيدة لها هويتها، وهي ليست هوية الشعر العالمي أو القصائد المكتوبة بالفصحى أو القصيدة العامية التي كتبت في السابق، واعتبرها نقلة من القصيدة العامية التقليدية الى مناخ جديد، فقد فتحت "الريل وحمد" بمفرداتها المتداولة بين الناس أبواباً جديدة أمام القصيدة العامية، ومن العوامل التي أثرت في كتابتها -يتابع النواب-ممارستي للرسم، والأجواء العائلية المشبعة بالموسيقا إذ كان والدي يعزف على العود، ووالدتي على البيانو وأيضاً الأجواء الكربلائية، كل هذه العوامل لعبت دورها في بناء القصيدة، وتشكيل عالم مختلف في (الريل وحمد) عن غيرها في القصائد العامية الأخرى"، وقد تراوحت اللغة في شعر النواب بين العامية والفصحى منذ بداياته الأولى، لكننا نقرأ قربه الشديد في الكثير من أشعاره من العامية ويفسر ذلك بقوله: "جاء قربي الشديد من العامية من الأجواء التي عشتها، الطفولة وهدهدات المهد، الأهازيج والسبايات، الأعياد والأراجيح، والسبب الآخر أن العامية تتمتع بغنى جمالي موروث وغير مدروس جيداً، هذا الموروث الذي تتمتع به العامية يجعلك تفتح عينيك على جماليات لا تمتلكها الفصحى، ولها قدرة عالية على ملامسة الناس في العراق تحديداً، والآن بدأت تأخذ أبعاداً أوسع، إضافة إلى أن المفردة العامية لها قدرة على تأجيج الناس أكثر مما تفعل العربية الفصحى، خصوصاً في الأوساط الشعبية".
كثيراً ما كان مظفر النواب يردد: لا أزال رغم التقدم في السن، ورغم المتاعب التي تسببها الغربة يوماً بعد يوم وثقل القضايا ووطأتها على النفس، لا أزال أمتلك الحماس نفسه ولكن بشكل أعمق، ربما كان انفعالي يوماً ما حاداً ولكنه الآن يأخذ أبعاداً أخرى، وفي الأساس والجوهر يبقى التأجج موجوداً، لذلك عندما يأتي أي ظرف فيه أحداث معينة أو اندلاعات معينة حادة، أجد نفسي في الجو الذي كنت فيه من اندفاع وحماس للكتابة.
وعندما سئل "النواب" عن بغداد وماذا تعني له في غربته ومنفاه قال: "بغداد في مخيلتي أبداً، لم تتلاش صورتها، على العكس كانت تقاوم الإمحاء وكنت أنا أستعيدها في كل لحظة على مدى هذه السنين الطويلة، وكأني لم أفارقها.. بغداد عالم من الجمال، حتى الزوايا المهملة فيها تضج بالجمال، مدينة تمنحك ألواناً لا تعرفها من قبل، لديها طيفها الشمسي الخاص، ألواناً أخرى غير تلك التي يضمها قوس قزح، بغداد مدينة مبدعة، فالإبداع ليس للأشخاص، المدن هي المبدعة".
وكما شُغف الشاعر النواب ببغداد شُغف أيضاً بدمشق، فنظم لها أجمل القصائد وأبهاها، ولعل أجمل ما قال بدمشق: "دمشق.. امرأة بسبعة مستحيلات، وخمسة أسماء وعشرة ألقاب، مثوى ألف ولي ومدرسة عشرين نبياً، وفكرة خمسة عشر إلهاً خرافياً لحضارات شنقت نفسها على أبوابها".
دمشق.. هي العاصمة الوحيدة في العالم التي لا تقبل القسمة على اثنين في أرقى أحيائها تسمع وجع "الطبالة"، وفي ظلمة "حجرها الأسود" يتسلق كشاشي الحمام كتف قاسيون ليصطادوا حمامة شاردة من "المهاجرين".
دمشق لا تُقسم إلى محورين، دمشق مكان واحد فإذا طرقت باب توما ستنفتح نافذة لك من باب الجابية/ وإذا أقفل باب مصلى فلديك مفاتيح باب السريجة/ وإن أضعت طريق الجامع الأموي، ستدلك عليه "كنيسة السيدة". دمشق، التي تتقن كل اللغات/ ولا أحد يفهم عليها إلا الله جل شأنه وملائكة عرشه.