محمد صابر عبيد
تنطلق قصيدة النثر من عتبة الشعر بوصفها حالة شعرية منزوعة الانتماء إلى مرجعية الوزن والقافية؛ ومجموعة البروتوكولات المتداولة الأخرى داخل الثقافة الشعرية العربيّة التقليدية، وتقف على الرغم من هذا النزع بموازاة النوعين الشعريين الكبيرَين المعروفين في تاريخ هذه الشعرية العربيّة وهما: {قصيدة الوزن} و{قصيدة التفعيلة}
ليس على سبيل التحدّي والإقصاء المُسبَق القصديّ كما يتوهّم البعض، إنما على سبيل الإقرار بحتميّة تطور مفهوم الشعر؛ وما يصاحب هذا التطوّر من تغيير فاعل في المكوّنات والأدوات وسبل التعبير والتواصل والتداول، بأسلوبيّة جديدة تناسب ما يحصل في الفضاء المعرفيّ والأدبيّ العام؛ ويستجيب لحالة العصر على طريق التجاوز الحتميّ للماضي والموروث والراهن بحثاً عن آفاق جديدة للآتي المستقبليّ.
وبما أن مفهوم الشعر ينبغي أن يتطوّر بتطوّر العصر على هذا الأساس؛ وبما يقتضيه المفهوم العميق والأصيل للتطوّر من إجراءات وفعاليّات ونُظُم، فإنّ "قصيدة النثر" هي قصيدة العصر المستقبليّ بلا جدال ولا مماحكة ولا تقصّد قَبْليّ، ولا مناص من الاعتراف الطبيعيّ بموت "قصيدة الوزن" وحتى "قصيدة التفعيلة" بسبب تغير مفهوم الشعر، وما يصاحب ذلك من تغير موازٍ في الذائقة وطرائق الاستقبال والتفاعل والاستجابة على النحو الذي يؤمّن قدرة تلقٍّ مناسبة، وينتقل بالمفهوم من مسار المحاكاة والتقليد والمهادنة والكسل والتخلّف؛ نحو مسار حيويّ مشتعل بالمبادرة والمفاجأة والمغامرة وتحدي الذائقة ووسائل الاستقبال التقليديّة المتكلّسة، وصولاً إلى مثال نصيّ مدهش ومثير من الكتابة الشعريّة الحديثة، يليق بالعصر ويستجيب لأفقه وتمثيلاته المعقّدة ويتناسب مع ما يجري من انقلابات هائلة في المفاهيم داخل مسارات المعرفة المختلفة.
مرّت قصيدة النثر العربية منذ خمسينيات القرن الماضي بمجموعة مراحل وتحوّلات؛ أسهمت في تخصيب رؤيتها حتى بلغت مرحلةً يمكن الحديث فيها عن "نظرية قصيدة النثر"، إذ تحاول الأطروحات المتعلّقة بقصيدة النثر في سياق نظريّ يتماهى مع سياق إجرائيّ مُناظِرٍ له وضروريّ، وذلك لضمان حيوية القراءة على مستوى الآراء والأفكار والنتائج، فضلاً عن الطريقة أو الأسلوب أو الرؤية التي تجعل من الإنتاج الشعريّ فرصة للتعبير عن الإيمان بفكرة التطوّر والتغيير، والانتقال من مرحلة إلى مرحلة جديدة تتلاءم مع روح العصر من النواحي الجوهريّة كافة، ومغادرة النوم المريح غير المنتِج على الأسرّة المستعمَلة.
إذ إن التجارب في اختلاف نماذجها - تاريخياً وجمالياً وموضوعياً- داخل رؤية عامة تسعى إلى تمثيل الحال الشعرية لقصيدة النثر، وتقديم هذه التجارب بوصفها أفقاً شعريّاً جديداً قد يُكتب لبعضها الاستمرار ولبعضها الآخر الضمور، ولا ضير في ذلك طالما أن المفهوم دائم التغيّر والتجدّد والتحديث، لتأتي أطروحة قصيدة النثر المركزيّة نظريّاً؛ في سياق نقديّ رؤيويّ لا يحتفي بالنماذج قدرَ ما يحتفي بالفكرة القائمة على حريّة تجديد المفهوم، وأصالته ورقيّه وانفتاحه على فضاء مستقبليّ حافل بالأصالة والحريّة والاستجابة لروح العصر ومنطقه ورؤيته.
إنّ النظرية التي تتحكّم في مسار قصيدة النثر تقدّم في جوهرها رؤية جديدة تجعل منها أصلاً في الشعريّة العربيّة وليس فرعاً كما قد يتصوّر البعض، وقد أتت الدراسة النقديّة الإجرائيّة حول قصيدة النثر في هذا المجال على نماذج شعريّة منتخَبة وأصيلة؛ من مراحل عديدة في نشأة هذه القصيدة وتطوّرها في ميدان الشعريّة العربيّة الحديثة، وهذه النماذج تمثّل اتجاهات مختلفة في فضاء الحراك الشعريّ لهذه القصيدة، بحيث يمكن أن تجيب بمجموعها على أسئلة قصيدة النثر من جوانب مختلفة تؤسّس لقوّة حضورها في ميدان الشعر الحديث، بما يمكّنها من استقطاب العناية القرائيّة واقناع المتلقّي بضرورتها وجدواها وقدرتها على تمثيل الذائقة المعاصرة، والسير قُدماً لكي تكون قصيدة المستقبل في نماذج قليلة جداً وأصيلة من نماذجها الراقية القادرة على اقناع مجتمع التلقّي بشعريتها الكاملة.
لا شكّ في أن هذه النظرية الخاصّة بمقاربة قصيدة النثر على هذا الأساس لا تشمل هذا الكمّ الهائل من الكتابة التي تدّعي الانتماء إلى هذه القصيدة، لأنّ هذه القصيدة لا يبلغها الكاتب العادي مطلقاً لما تنطوي عليه وتحتاجه من كفاءة فائقة واستثنائيّة، تجعل شعراءها أقلّ كثيراً جداً من شعراء قصيدة الوزن وقصيدة التفعيلة، مثلما تجعل قصائدها أقلّ كثيراً من القصائد التي تنتجها ماكنة الوزن والقافية، فهي تحتاج إلى لغة عالية قادمة من معرفة عميقة بأسرار اللغة، ومن ايقاع قادم من التراث الايقاعيّ الشعريّ العربيّ ومغاير له في الوقت نفسه، وتحتاج إلى فكر نيّر ونظيف وحيويّ ونشيط وفعّال، وإلى إحساس عالٍ بالأشياء، وإلى ذكاء نوعيّ وشديد الخصوصيّة في بناء الجملة الشعريّة وإدارة حراكها الجماليّ داخل القصيدة، وإلى مرجعيّة ثقافيّة وتجربة أصيلة تزوّد شاعرها بما يحتاجه من إمكانات نادرة في الوقت المناسب.
تكون قصيدة النثر على هذا النحو من أصعب الفنون الإبداعيّة قاطبة، ولن تنجح فيها المغامرات العابرة والهامشيّة والتجريب أبداً، إمّا أن تكون شاعراً قادراً على الإيفاء بالمتطلّبات الشاقّة لهذه القصيدة؛ وإمّا أن تكتفي بتدوين كلمات إنشائية وخواطر ولك أن تسميها كما تشاء من غير أن تحلم ببلوغ منصّة قصيدة النثر، وثمّة الكثير من هؤلاء الذين يعدّون أنفسهم شعراء قصيدة نثر وهم لا يكتبون سوى نثار من التعبيرات الوجدانية، يمكن أن تقنع أصحابها على مستوى التعبير عمّا يحسّون به من مشاعر؛ لكنّها ليس من الضروريّ ولا من المناسب أن تنتمي إلى ميدان قصيدة النثر لأنّها بعيدة كل البعد عن هذه الصفة.