سُؤال الهُويَّة بين الحداثة الصّلبة والسّائلة

ثقافة 2024/06/24
...

  أحمد عزيز الحسين

يذهب معظمُ الباحثين إلى أن الهوية معطى قبليّ، في حين يرى ابن سينا وأبو البقاء الكفوي أن هوية الفرد تتحدد بما يملكه من مزايا جزئيّة خاصة به، ولا شأن لها بما يملكه {الآخر" من هذه المزايا، ويميل الكفوي في موضع آخر من معجمه {الكليّات} إلى أن الهوية تختلف عن {الماهيّة} التي تعني مجموع الصفات التي يتصف بها الإنسان النمط، في حين يؤكد أتباع المنطق الصوري أن مفهوم الهوية يعني اتحاد الشيء مع نفسه في هوية واحدة، ويميل باحث معاصر هو أوس حسن إلى القول بأن الهوية تعني حقيقة الشيء المطلقة، وما يشتمل عليه من عناصر تجعله مطابقاً لذاته.
ويؤكِّد باحث آخر هو حجاج أبوجبر أنّ الهُويّة تتحدّد بما يعرفه الإنسان من أشياء في العالم الخارجيّ، وبما يملكه من وعي وإدراك يجعلان تلك الأشياء سمة بارزة ومميَّزة هي التي تمنح هُويَّة الفرد الثّبات والاستمراريّة في الزّمن، وتجعل ذاته متطابقة مع موضوعها، أمّا أنصار "ما بعد الحداثة" فقد أبدوا ارتياباً بهذا المفهوم، وشكّكوا بقدرته على الاحتفاظ بالتّماسك والصّلابة في وجه الرّياح العاتية التي اجتاحت الكوكب، وأجبرت الأفراد على الانحناء أمام التّيّار، والتّكيُّف مع الظُّروف الجديدة التي واجهتهم، وذهبوا إلى أنّ مشكلة الهُويّة في زمن "الحداثة الصُّلبة"، كانت تتمحور حول مفاهيم وآليّات تشكُّل جوهرها، والحفاظ على صلابتها واستقرارها، وقد أمسى بناؤُها عمليّة دائمة ومَهمَّةً فرديّة ترتبط بمفهوم الثّقافة المهيمِن، ممّا يدلُّ على عدم كفاءة الفرد وقدرته على تشكيل هُويّته بمفرده، وحاجته إلى "الآخر"، وإلى التّربية الجمعيّة كي ينهض بذلك، مع ضرورة الإشارة إلى أنّ السّياق الدّاخليّ، الذي يعيش فيه الفرد، ليس سياقاً مغلقاً، بل هو مفتوح على فضاء عالميِّ موّار، أو سيّال، بحسب تعبير زيغمونت باومان؛ وهو ما يجعل صلابة الهُويّة المكوِّنة للفرد لا تستطيع الصُّمود أمام رياح الخارج الهوجاء التي يمكن أن تُفقِدها درجة تماسكها، وتجعلها تذوب، وتسعى إلى اختيار بنيتها ومكوِّناتها الدّاخليّة من جديد، في عمليّة صهر موّارة لا تتوقّف أبداً.
ومع أنّ الفرد عموماً هو الفاعل والمكلَّف بتكوين هُويّته واختيار عناصرها، إلّا أنّه، في الوقت نفسه، يخضع لعمليّة تشكيل مستمرَّة من خلال السِّياق الذي يعيش فيه؛ والشّرائح الاجتماعيّة التي يحتكّ بها، والسُّلطة التي تتحكّم بتوجُّهاته، وتقيِّد تطلعاته، وذلك لأنّ هُويّته ليست إجراء فرديّاً يمكن أن ينهض به بمفرده من دون تفاعل مع الآخر، وهذا ماذهب إليه ليبنتز حين اخترع قانوناً سمّاه (قانون اللّامتمايزات)، وذهب فيه إلى أنّ " كلّ شيء يختلف اختلافاً كليّاً عن كلّ شيء آخر"، وأنّه "لا يوجد شيئان متشابهان تمام التّشابه"، ولذا فإن هُويّة الفرد لابدّ أن تشتبك مع الآخَر المختلف عنه، وتستعير منه بعض ما يملكه لكي تكمل رحلة تشكُّلها الموّارة.
والواقع أنّ التحوُّل الهائل الذي طال الهُويّة في زمن العولمة، دفع الذّات إلى الانخراط في مرجل إعادة الّتشكيل والتّغيير، وأجبرها على التّخلّي عن صلابتها واستقرارها، كما يرى حجاج أبوجبر، وهكذا اضطرّت إلى الذّوبان، والتّخلّي عن صلابتها، وفقدت العناصر التي تشكِّل قوامها الثّابت، وهيكليّتها المستدامة، وأعِيْد تشكيلُها ومنحُها هويّةً جديدة بعد أن ولجت مضطّرّة الفضاء الموّار الذي يحيط بها، وتفاعلت معه لتتلاءم مع التّغيُّرات من حولها؛ وقد شمل هذا التّغيُّرُ كلَّ ما أبدعه صاحبها في زمن الحداثة السّائلة من مفاهيم وأفكار ورؤى جماليّة ونصوص؛ بحيث بات من المتعذَّر عليه أن يدّعي بأنّ ما يعرفه هو نتاج لإبداعه الخاصّ، أو جهد لأمّة بعينها، أو عرق محدَّد، إذ أتِيْح للمفاهيم والنّظريّات والمصطلحات أن تطير وتهاجر من مكان إلى آخر بسبب تحوُّل العالم كلّه إلى قرية كونيّة واحدة، وإمكانيّة الانتقال من مكان إلى آخر بسرعة هائلة؛ بحيث بات من المتعذّر لدولة توليتاريّة أن تحبس مواطنيها في "حيّزها الوطنيّ" المحدود، أو تحول بينهم وبين الاحتكاك بالآخر، أو تفرض عليهم التّواصُل مع منابرها الإعلاميّة، أوالاكتفاء بما يتلقَّونه من مؤسَّساتها التّربويّة والإعلاميّة،  كما كان يحدث في دول العالم الثّالث قبل نصف قرن.
لقد أسقط التّقدُّمُ التّكنولوجيُّ والرّقميُّ الذي أتاحته العولمةُ الحواجزَ التي أقامتها الدّول التّوليتاريّة بين مواطنيها والعالم من حولها، ومنح مواطني هذه الدُّول القدرة على التّعرُّف إلى ما يجري في أصغر قرية على الكوكب خلال ثوانٍ معدودة، وبالتّالي أمسى المواطن في هذه الدّول "حُرّاً!"، وقادراً على اختيار منافذ وبدائل عديدة بدلا من المنافذ والبدائل المحدَّدة التي كانت تُفرَض عليه، وتجعله مضطَّرّاً إلى قبولها؛ ولذا فقدت هذه الدّول القدرة على (التّحشيد) و(التّضليل)، الذي كانت تقوم به من قبل، وأمسى معظمُ مواطنيها الواعين قادرين على التّفلُّت من شباك مراقبتها وعيون بصّاصيها، غير أنّهم وقعوا في إسار شبكة أخرى أقامتها الشّركاتُ العابرة للقارّات، ولم يستطيعوا الهرب من النّظام الهرميّ المنظَّم الذي بنتْه بغية إحكام سيطرتها على ما يحدث في الكوكّب الأرضيّ كلّه، وتنميط أفراده وإعادة قولبتهم من جديد؛ وهكذا استطاعت هذه الشّركاتُ أن تلعب دور الآلة السّاحقة للهُويّة الفرديّة، كما تمكّنت من تذويب العناصر التي تساعد هذه الهُويّة على التّماسُك؛ فضلا عن أنّها استطاعت تشريع قانون لتفكيك الازدواجيّة والرِّباط الطّبيعيّ بين اللُّغات والأمم، وبين اللّغات الوطنيّة وذاكراتها، وبينها وبين آدابها، كما أفلحت في تمزيق الثّقافات الوطنيّة، وحاولت تشكيل نمط استهلاكيّ واحد للبشر بغية إنتاج نموذج مُوحَّد لهم، ومحو الاختلاف بينهم، وجعلهم متجانسين، ومتبنِّين لثقافة واحدة هي ثقافة التّفاهة والاستهلاك، وأمسى التّحضُّر مقترناً بتبنِّي النّماذج الاستهلاكيّة في الدّول الكبرى، والإقبال على شراء المُنتَجات التي تُنتِجها هذه الدّول، حتّى دون أن يكونوا بحاجة إليها.
لقد أصابتِ العَوْلَمةُ حياتَنا السّاكنة الهادئة بزلزال، وقوّضت البُنى الصّلبة والثّابتة التي كانت تنهضُ عليها، وأفسحتِ المجالَ لكلِّ فردٍ فينا كي يساهم في تشكيل عجينتها اللّدِنة، ويبحث لنفسه عن موقع ما في فضائها الملتبِس، وحيِّزها المحكوم بالحركة والسّيلان والتّغيُّر، وإن كان الحيٍّزُ المتاحُ له للحركة مرسوماً بدقّة، ولايخرج عن المسار والنّظام الذي رُسِم له، وعلى الرّغم من وجود باحثين كُثُر ربطوا بين "مفْهُوم العَوْلَمَة" و"مفْهُوم الأمْرَكة" إلّا أنّه من الصُّعوبة بمكان الادّعاء بأنّ هناك فاعلا فكريّاً واحداً ومؤثِّراً محدّداً هيْمَن على فضاء العَوْلَمة الزّلق والرّجراج، وجعله مساحةً خاصّة لتعميم ثقافته النّمطيّة، ورؤيته الفكريّة والسّياسيّة، إذ إنّ مفهوم العَوْلَمة الزّئبقيّ قوّضَ الحدود والتّصوُّرات المستقرّة، وفتح العوالِمَ المغلقة والشّعوب والإثنيّات والثّقافات المتبلورة على بعضها، وجعلها تتلاقح، وتتبادل التّأثُّرَ والتّأثير، وأطاح بمفهومَي الخصوصيّة الصّافية، والهُويّة النّقيّة، وأحلّ محلَّهما مفهوم الهُويّة المُهَجَّنة، ولم يعد بالإمكان، في عصر العَوْلَمة، أو "الحداثة السّائلة"، الاحتفاظُ بحالة الجمود والتّحجُّر التي كانت تسِمُ أنماط الحياة الشّائعة في الدّولة القوميّة، أو الوطنيّة، ولاسيّما في الوطن العربيّ والعالم الثّالث، وجرى كسْرُ الإطار القوميّ أو الوطنيّ للثّقافة، وتحريرُ المحليّ والإقليميّ من عوامل الانغلاق على الذّات بذريعة الدّفاع عن الهُويّة الوطنيّة أمام زحف الثّقافة الخارجيّة الغازية، وفي مقدِّمتها الثّقافة الأمريكيّة؛ ولذلك فإنّ عدد القادرين من الشّباب على التّفلُّت من المصير الذي يُحاك لهم في الخفاء يتضاءل في ظلّ الظّروف الحاليّة، وعندما يفلح أحدهم في الخلاص من الشّبكة التي دُفِع إليها مُرغَماً، لا يجد سبيلا لتحقيق ذاته المستلبَة إلّا بالعودة إلى الماضي، لكي يعصم نفسه من الذّوبان والانجراف في خضمّ التّيّار الكاسح الذي طال خطرُه الجميع، ولم تسلم منه إلّا القلّة
القليلة.
لقد أدّت قوانينُ العولمة الاقتصاديّة وإجراءاتُها المتعسِّفة إلى انبثاق الأصوليّة المتطرِّفة من تربة الحاضر المتصدِّع الآيِل للسّقوط، وحاولت الأصوليّة التّصدِّي لعولمة الفقر والاغتراب، وتفكيك ثوابتها، وتذويب صلابتها، وتدنيس مقدَّساتها، من خلال التّشبُّث بهُويّة ماضويّة موروثة، والانحياز إلى الماضي، والزّعم بأنّ العودة إليه هي صمّام الأمان لشعوبها المهمَّشة، وهي السّبيل لإنقاذهم ممّا هم فيه، وهذا ما حدا بـ "زيغمونت باومان" في كتابه "الحداثة السّائلة" إلى التّأكيد على أنّ الأصوليّة الرّاهنة ليست سوى ابنة شرعيّة للعولمة، وأنّها ليست نتاجاً للأفكار الدّينيّة وحسب، بل هي نتاج لعقابيل العولمة الاقتصاديّة التي ركّزت ثروة العالم في أيدي 300 من أثرياء العالم، وأجبرت ستّة مليارات من البشر على العيش في أحيازٍ طرفيّة مدقِعة غارقة في الفقر، ومهاوي الاغتراب واليأس.
 وما أكثرَ ما نسمع في الوقت الحاليّ من يهتف بحرقة وأسى متمنِّياً لو يستطيع أن يعود سنواتٍ ضوئيّة إلى الوراء كي ينعم بالهدوء والاطمئنان في حياته، مع أنّ العودة إلى الماضي تشكِّل نوعاً من الهروب من حاضر مظلم ومُمرِض لا مكان فيه للخلعاء والصّعاليك الجدد الذين لفظتهم العولمة والشّركات متعدّدة الجنسيّات على الأرصفة، ورمت بهم إلى قاع سحيق، وأبقتهم مُهمَّشين من دون مكان، ولاحاضر، ولا أفق مفتوح، ولامستقبل.