كلماتٌ وأشياءٌ بسمرةٍ شعرية محاولة في التصنيف والتأويل
د. صباح التميمي
الكلمات هي أشياء عمار المسعودي الأثيرة التي يمارس بها مع محيط تلقيه لعبة الحضور والغياب، الانفتاح والانغلاق، الألفة والعداوة، الجدب والنماء، الأنوثة والذكورة.. لخلق عوالم متضاربة متناقضة قد تنزلق فيها أقدام من لا يعرفون اللعبة، فيحسبونها محض خطوط وخربشات رسمت باللغة ومن اللغة للتسلية!
كلّ كلمة عند المسعودي علامة، ومن الطبيعي جداً أن تحمل- حين تحضر في فضاء التجربة- عوالمها الماضية، وتاريخها الدلالي، لكنه في محور التشكيل يمحو ذاكرتها، وينوِّمُها شعرياً، فيُخرجُها من ماضيها وتاريخها وهُويتها، ليدخلها في لحظة الراهن الخاص.
بهذه الخطوة، تكتسي الكلمات وتكتسب "سمرةً" شعريةً خاصةً به، لكنّ السؤال هنا: هل تتم عمليةُ المحو والتنويم والتسمير هنا ببراءة؟
برأيي أنّه لا توجد كتابة بريئة، كما لا توجد عين بريئة ولا قراءة بريئة، كلُّنا نحاول أن نقرأ الكلمات بالكلمات، ونفهم أشياء العالم المحيطة بنا بالكلمات أيضاً، فإذا حضرت كلماتٌ مِن نصٍّ غائبٍ أو آخرَ غائب غائر في التاريخ، فهذا لا يعني أنّها عَبَرَتْ حاجز الزمن ببراءة طفولية تامة، بل هي مادة أوَّلِيّة طافية في الذاكرة، تستدعيها الذات الشاعرة بوعي لخلق فضاءٍ جديدٍ، قد تفقد فيه سكونيتَها الدلالية، وتخرج من ضيق الثابت إلى رحابة المتحوّل.
ومع كلِّ عملية محوٍ وتنويمٍ، ثمةَ تعالقات تتشكّل، أفقية على مستوى المدونة، وأخرى عمودية على مستوى النص، في الأولى تعمل النصوص المتآزرة بخفاء عميق على خلق خطاب التجربة العام، وفي الأخرى تتم صناعة فضاء أكثر ضيقاً وخصوصية عبر تعالقات تركيبية تتحرّك عمودياً، تمنح الكلمات هُوية اللحظة النصية التي تحاول خلق إطار تخاطبي خاص بالتجربة النصية الآنية، وهذه وتلك تحدث بالكلمات وفيها ومنها في رحلة تعالق مثيرة.
يقول إمبرتو إيكو: "النص مجرد رحلة يجلب فيها الكاتب الكلمات بينما يجلب القراء المعنى".. وهذا ما تحاول مقاربتنا هذه الاقتراب منه، والكشف عنه في "صيف أسمر".
تتوزّع الكلمات "العلامات" عند المسعودي في مدونته هذه بين حقول دلالية يفصح فحصها وتنميطها عن أسرار معجم القصيدة السيميائي عنده.. وعن رؤاه الدلالية، التي يعتّقها ويؤجلها داخل هذا المعجم.
فما حقول الكلمات التي تشكّلت في هذه المدونة وكيف؟ تَنضَمُّ الكلماتُ "العلامات" في زمر نصيّة يحتقبها فضاء زماني ومكاني واحد، مكونة النصوص من خلال محور بنائي أسميه "محور التناظم"، وهو الخيط التركيبي الذي يربط الكلمات مع بعضها في النص الواحد.
لتأتي عمليةُ تضامٍ وتعالقٍ أخرى، تحدثُ على مستوى أكبر في محور أُسمِّيه "محور التجاور"، تتجاورُ فيه "النصوصُ" المتناظمةُ على مستوى كلماتها؛ لتشكيل التدليل الشامل لخطاب التجربة كلّه. وهذا وذاك يُنتِجان سياقات لحقول "رؤى" لا حقول معنى- كما سيتضح- أهمها: حقل المكان الطبيعي: "جداول، سواقي، أشجار"، وحقل المكان غير الطبيعي: "نوافذ، أبواب، قمصان"، وحقل الزمان: "صباح، مساء، ضحى.. الخ"، وحقل اللون: "الأبيض، الأسود، الأخضر"، وحقل الضمائر "المخاطب المذكر والمؤنث، الغائب المذكر والمؤنث، المتكلّم"، وحقل الأشكال الهندسية: "دوائر، مستطيلات، مربعات"، وحقل التصوّف: "الشيخ، المريد".
هذه أهم حقول "العلامات" التي يحتقبها "صيف أسمر" على المستوى الدلالي، وكلّها علامات لا تقدّم معنًى جاهزاً، بل رؤى ووجهات نظر خاصة تجاه الأشياء، يقول في نص "فلاح إينانا": "إن رسمتِ قبلَ المطر بريقاً؛ لم أكن ألوانكِ ولا رذاذكِ ولا صحوكِ ولا غيمكِ ولا يومكِ ولا شهركِ. أعرفُكِ تمثُلينَ حينما تُورقين باسمي في غابة الأيائل شرق عينيكِ وغرب وجنتيكِ وجنوب غمازتيكِ إلاّ أني وقتها لا أرى ولا أستمع لندائكِ. تصيحين بالمطر على قميصي ثمّ تأتين بالرياح على بللي بينما أكون وقتها غائباً عن شتائكِ نصفه وعن معطفكِ المجدول من النجوم نصفه، وعن الأرض نصفها وعن العطش والريّ نصفيهما وعن بياضكِ وسمرتي نصفيهما أيضا. لا تكوني الدليل، خشيتي من الوصول سوف لا أقول بنصفها. قولي بضياعي لو أردتِ القربَ".
القصيدة هنا تستدعي رمز الحب والخصب والجنس، الآلهة البابلية "إينانا"، ولكنها ترسم صورة لامرأة كونية من وجهة نظر شعرية خاصة بالشاعر، الرمز هنا ما هو إلا "علامة إحالية" تجسّد بعض المعنى، الذي قد تفهمه القراءة النمطية على أنه "غرض غزلي".. الشاعر هنا يحطّم التغريض، هو يُفلسِف العلاقة بين "الأنا" و"الآخر: كاف المخاطبة"، هو لا ينظر إلى هذه العلاقة نظرة سطحية نمطية تفضي إلى حالة وصول لنشوة جسدية مادية، بل هو يوجّه خطابه "لأنثى كونية"، فيوصيها بعدم الاقتراب منه بوصفه "معنى رجولياً جاهزاً" فيقترح أن تقول بضياعه كي تحقّق القرب منه! إنها رؤية عميقة للعلاقة بين الذكورة والأنوثة، كونية، عامة، باعثة على مغادرة "الأشياء الجاهزة" التي تقترحها الأدبيات الثابتة بأنساق فحولتها.
وبعد كل هذا التجوال التأويلي الممتد لسنوات مع المسعودي- أعلن اعترافي بصعوبة مسكه!. عمار يسكن في اللامعنى ما يجعله ممتداً ومتكوّراً.. عمودياً وأفقياً، أبيض في سمرةٍ، وأسمر في بياض. الكتابة عنده انعكاس لذواتنا المتشظية التي تركن للتأويل في لحظة شغف ما، سرعان ما ينطفئ. وربما هذا ما ينفّرُ القراءاتُ التقليدية الباحثة عن الجاهز من المعنى منه. عمار يجب أن يُقرأ بكلِّ تفرعاته هذه بلا نوايا تخبّئ السؤال عن المعنى الجاهز.. ومن يحمل في جيبه خبيئةً مِن معنى جاهزٍ، وهو يدخل دوائرَه ومستطيلاته ومربعاته ومثلثاته سيضيع في لعبة أشكاله الهندسية.. الداخل لعوالم عمار بالتأويل ينبغي له أن يبرم عقداً مع كتابته بأن لا يسأل عن المعنى، وإن ثقبَ الشاعرُ سفينةَ المعنى أمام عينيه، وهدم جدارَه، السرُّ في تجربته هو ألّا تسأل، أن تستمتع بـ "اللامعنى"، فالمتعة تكمن فيه، لأنَّ الجاهز يفضي للرتيب، وهذا ينتهي بنا إلى الملل المتأتّي من تراكم الأشياء والمعاني من حولنا.
الذهاب إلى "اللامعنى" واحدة من نيّات قصيدة النثر الفاعلة، فلا قوانين تحكمُها، ولا بروتوكولات جاهزة تسيّرها. فمتى ما سقطت قصيدة النثر في "النمط" دخلت في إشكال "القاعد"، وهي مهمومة بكسرها!
السؤال، هل نحن معها في علاقة تلقّ عبثية، بلا جدوى، لأنَّ حقائبنا تخرج من لقائها بلا معنى؟! أو أنَّ القضية تتصل بأزمة تلقّ، وأزمة ثقافة؟
مع قصيدة النثر وإشكالية المعنى فيها، ينبغي ألّا تُفهم الأمور بهذا التسطيح. إنَّ غياب المعنى الجمالي الجاهز الذي اعتادت عليه الذائقة التقليدية لا يعني اللاجدوى، بل يعني حجب المعنى، وإنتاج بدائل عنه! فما بدائل المعنى عند المسعودي؟
قصيدة النثر عند المسعودي ليست قصيدة معنى، بل هي عنده "قصيدة رؤية"، لا "قصيدة رؤيا" بمعنى أنها تُنتج "وجهة نظر" خاصة صادرة عن تأمل أشياء العالم وتأويلها شعرياً، لا عن حالة "حُلْمِية" تكتفي بالخيال جسراً بينها وبين المتلقي، هي قراءة شعرية تقدِّمها الذات الشاعرة وهي تُواجه العالم بكلِّ حيثياته وتمفصلاته وأشيائه.. فالشعر عندي اليوم، لا يكون مجدياً حتى يتحوّل إلى "قراءة" تقرأ العالم، وتُعيد إنتاجه.
هذه القراءة الشعرية المُفضية لوجهة نظر خاصة، ينبغي ألّا تُقابَل بفهم نمطي للمعنى، بل تحتاج إلى فهم عارف، عملية تأويل واعية، تكشف عن أسرار "وجهات النظر" المنتجة عمودياً- عبرَ فحص المدوّنات الشعرية وتحولاتها الزمنية منذ فجر الكتابة عند المسعودي حتى راهنه- وأفقياً- عبرَ فهم وجهة النظر الخاصة بكل قصيدة- وهذه تفضي في النهاية إلى تلك، فالممعن النظر في تجربته بعد "كتاب فقه النشوة"، يلمسُ تحوّلاً في استراتيجيات إنتاج المعنى، فإذا كان قبل مرحلة "فقه النشوة" يحتفي بالمعنى والمعنى الجمالي، فإنّه انطلاقاً من هذه المرحلة صار يحتفي بـ "الرؤية/ وجهة النظر"، بحسب ما أرى، وهذه الرؤية ليست متقطّعة تظهر تارة وتغيب أخرى، بل هي ممتدة تستغرق خطابه الشعري منذ "فقه النشوة" حتّى "صيفه الأسمر".. في هذه المرحلة وصلت قصيدة المسعودي إلى أوج نضجها الرؤيوي، وهذا ما يفسّرُ "غياب المعنى" الذي يؤشره الفهم النمطي التقليدي لحظة تلقيه خطاب المسعودي الشعري على أنّه سقوط في العبثيَّة!