عدنان حسين أحمد
لم يجترح الكاتب والمخرج الكرواتي نيبويشا سليجيبتشيفيتش قصة فيلمه "الرجل الذي لا يستطيع البقاء صامتًا" من خياله المحض، وإنما استقاها من الواقع المرير الذي تعيشه جمهوريات صربيا وكرواتيا والبوسنة والهرسك والجبل الأسود بعد (التقسيم أو الاستقلال). ومن البديهي أن تفقد هذه القصة الحقيقية الكثير من حرارتها بعد أن تستهلكها الأخبار المرئية والمسموعة والمكتوبة حتى تغدو حدثًا عاديًا يمرّ على الأنظار والمسامع مرور الكرام. ومع ذلك فقد نجح نيبويشا في إعادة صياغة هذه القصة المروعة بعد أن شحنها بالكثير من عناصر الشد والترقب والانفعال وقدمها لنا، وكأنها حدث طازج لم نألفه من قبل.
تتكئ قصة الفيلم على مذبحة شتربسي التي وقعت عام 1993م، عندما تم اقتياد 19 مسلمًا بوسنيًا من قطار من قبل مجموعة (النسور البيضاء) الصربية شبه العسكرية وأعدموهم بعد وقت قصير من انطلاق القطار ثانية، ولم يجرؤ أحد من بين 500 راكب تقريبًا على مجابهتهم، باستثناء رجل واحد، وهو الضابط العسكري المتقاعد تومو بوزوف الذي كان في طريقه لزيارة ابنه.
قد تختلف أرقام هذه السردية التاريخية لكنها لا تخرج عن إطار التصفية والتطهير العرقي ضد المسلمين في تلك المضارب.
يترجل عدد من المسلحين المليشياويين من سياراتهم ليفتشوا القطار الذي أوقفوه عنوة وطلبوا من الركاب إخراج بطاقاتهم الشخصية بغية التأكد من أعراقهم وأديانهم ومذاهبهم.
ورغم أنّ الأفراد المسلحين ادعوا بأنّ التفتيش روتيني ولعلهم يبحثون عن هاربين من الجيش أو عن مهرّبي أسلحة كما يخمّن بعض الركّاب إلاّ أنّ واقع الحال يشير إلى ما هو أبعد من ذلك فالبعض منهم لا يريد أن يصرّح حتى باسمه الشخصي الذي قد يحمل دلالة تشير إلى عِرقه أو ديانته كما حدث لميلان بايكوفيتش الذي لا يحمل هُوية أو أية أوراق ثبوتية أخرى، خلافًا لدراغان الراكب الذي يجلس على المقعد المقابل له، وسنكتشف بعد قليل أنّ ميلان "محمدي"، ومنتسب للديانة المحمدية على وفق التوصيفات الأوروبية للشخص المسيحي الذي يقابله والذي تعمّد على مذهب القديس جورج.
يطلب المليشياوي من ميلان أن يترجل من القطار ويترك حقائبه في مكانها لأنه سيعود بمجرد التأكد من وجود اسمه في الحاسوب. كنّا نتصور أن دراغان (گوران بوغدان) هو "الرجل الذي لا يستطيع البقاء صامتًا" وأنه أخذ حصة الأسد من اللقطات المقرّبة التي كشفت عن مشاعره المرتبكة، وأحاسيسه الداخلية، وقلقه المتواصل لكننا سوى نفاجأ بشخص آخر يُدعى تومو (دراغان ميكانوفيتش)، وهو ضابط جيش متقاعد برتبة نقيب يخاطب المفتش المليشياوي قائلاً:"دع الفتى لوحده وهو لم يفعل شيئًا" ثم تتصاعد نبرة الحوار وحدّته بين النقيب المتقاعد الذي يعرف القوانين جيدًا وبين الآمر المليشياوي الذي جسد دوره باتقان شديد الفنان (ألكسيس مانينتي) الذي يستفزه تومو ثانية حينما يخاطبه مستفسرًا "مَنْ أعطاك الحق بتفتيش الناس بهذه الطريقة؟" وحينما يسأله عن الطريقة التي تعمّد فيها يرد عليه بهدوء "هذا ليس من شأنك" فيبلغ التوتر ذروته ويحتد النقيب فيقول له "أنتَ تعامل الناس مثل الحيوانات" فلم يجد المليشياوي بُدًا من اتهامه بأنه مُحب للمسلمين، وهي تهمة سهلة يمكن أن يلصقها بأي شخص يدافع عن الحقوق الفردية والجماعية لعامة الناس البسطاء.
يتساءل تومو باستغراب:"ألا يوجد قانون في هذا البلد؟
" ثم يتهمه بأنه ليس عسكريًا وأنه ينتمي إلى عصابة من المجرمين التي تنتهك حقوق الناس في رابعة النهار فيطلب من المفتش أن يأخذه إلى آمره فيرد عليه باقتضاب:"ذلك بالضبط ما ستذهب إليه"!
ورغم أنّ نهاية هذا الفيلم ظلت مفتوحة على تأويلات عديدة لكنّ أقربها إلى الذهن أنّ هذا الرجل الذي لم يستطع البقاء صامتًا سيلاقي حتفه بينما فضّل نحو 500 شخص البقاء صامتين لكي لا يترجلوا من القطار ويواجهوا نفس المصير الذي واجهه تومو لأنه رفض السكوت على الظلم وإهانة الإنسان بسبب عِرقه ودينه ومذهبه.
فاز هذا الفيلم بجائزة السعفة الذهبية في الدورة السابعة والسبعين لمهرجان كان السينمائي.
أنجز نيبويشا سليجيبيتش العديد من الأفلام الوثائقية مثل فيلم (الرجل الحقيقي)، و (شيء عن الحياة)، و (سربينكا)، و (جاري الذئب).
تم عرض فيلمه الوثائقي الطويل "عِصابة الحُب" عام 2013 في HotDocs وحقق نجاحًا كبيرًا في شباك التذاكر في كرواتيا. حازت أفلامه على العديد من الجوائز من مهرجان سراييفو
وZagrebDox.