{درسو أوزالا}.. أنقذ كوروساوا من الانتحار

ثقافة 2024/06/24
...

  ترجمة: نجاح الجبيلي

بمناسبة صدور نسخة عالية الدقة من شركة كريتريون لفيلم {درسو أوزالا} للمخرج الياباني كوروساوا كتب الناقد ريموند ريتشي هذه المقدمة، وهو مختص بالأفلام اليابانية ومؤلف الكتاب المؤثر {أفلام أكيرا كوروساوا}. عرف كوروساوا شخصية درسو أوزالا، حين قرأ كتاب فلاديمير أرسينييف عن مساحي الحدود الروسية المنشورية في الجزء الأول من هذا القرن.
هناك، التقى هذا الجندي والمستكشف الروسي بدرسو،الصياد السيبيري، ورجل التندرا. وكما انجذب المؤلف إلى هذا الإنسان الغريزي والطبيعي، كذلك أعجب المخرج كوروساوا بحياة درسو المتوافقة مع الطبيعة، الذي لا تلهيها أعمال الإنسان. وهكذا، عندما طلبت شركة "موسفيلم" الروسية من كوروساوا أن يصنع فيلماً في الاتحاد السوفييتي، كان موضوعه جاهزاً بالفعل. إن درسو أوزالا   يمثل شخصية كوروساوا. فهو غير مطلع على الطرق الحضرية ولكنه يمتلك ذكاءً محليًا طبيعيًا؛ كما يمتلك رواقية قوية. إنه متحفظ، بسيط، مباشر، و يعرف ما هو الصواب؛ ويشبه الرجل العجوز في ختام فيلم "أحلام"، فهو يقف وحيدًا بينما يختفي العالم الطبيعي الذي يحبه كثيرًا. في نص كوروساوا الأصلي، يعاني درسو من المزيد من التغييرات. لم يعانِ الصياد السيبيري من مشكلة في عينيه (مثل كوروساوا خلال هذه الفترة) فحسب، بل أصبح أيضًا على دراية بموته الذي لا مفر منه. في مشهد قوي لم يتم تصويره، يعثر درسو وأرسينييف على جثة صيني، وقد نقرت الغربان عينيه. يقول الكاتب الروسي، واصفاً هذا المشهد: “بالنظر إلى هذه الجثة الوحيدة، كان درسو يرى وجه مستقبله، وحيدًا، عاجزًا في السهوب. لقد نظر إلى وجه موته، وعرف الرعب. وبعد ذلك، أغرق نفسه بقوة أكبر في صمته المعتاد". أثناء إعادة الكتابة، أزال كوروساوا هذا المشهد والعديد من المشاهد الأكثر قتامة، مما أدى إلى تلطيف فيلمه إلى حد كبير. يعتقد الناقد بيتر بي هاي، الذي قارن بين النصين، أن كوروساوا كتب النسخة الأولى أثناء يأسه بسبب الفشل المالي لـ لفيلم"طقطقات  Dodes’Ka-den " والفشل الشخصي لـ فيلم "Tora! تورا! تورا!" الذي طردته شركة "فوكس القرن العشرين" Twentieth Century Fox بسببه. ربما كان هذان الحدثان هما الدافع وراء محاولة كوروساوا الانتحار، والتي تعلم خلالها الكثير عن الطبيعة الحقيقية للموت.  حين تمكن المخرج مرة أخرى من تحقيق فيلم، بفضل كرم شركة موسفيلم، خاليًا من أي اعتبارات مالية، لم يعد يشعر باليأس الذي ربما كان الدافع وراء كتابة النسخة الأولى من السيناريو. وفي الوقت نفسه، لم يكن يرغب، من خلال بطله، في إعادة النظر في تلك المشاهد القاتمة التي نجا منها هو نفسه مؤخرًا. مهما كان السبب، فإن الفيلم النهائي يختلف عن النص الأصلي. في الأول، يموت درسو من خلال مكائد التقدم، وليس من خلال الحقيقة الوجودية المتمثلة في أنه ولد على الإطلاق، وبالتالي محكوم عليه بالموت.  هذه التغييرات تحدث كلها في الجزء الثاني من الفيلم. يحتفظ الجزء الأول بالكثير من النص الأصلي، بما في ذلك تصوير العناصر التي جذبت كوروساوا في الأصل إلى القصة: اللقطات المذهلة للنمر السيبيري؛ المشهد المذهل للرجلين وهما يحدقان في شروق الشمس وغروب القمر، كل ذلك في نفس اللقطة مقاس 70 ملم؛ والمشهد الرائع للعاصفة الثلجية بجانب البحيرة المتجمدة. إنه أحد أجمل أفلام كوروساوا تأليفًا وتصويرًا، فهو يوضح ثيمته بصريًا - بكلمات أرسينييف: "الإنسان أصغر من أن يواجه اتساع الطبيعة". الكاميرا دائمًا على مستوى العين: من خلال العين البشرية يجري عرض اتساع السهوب، والشخصية البشرية الصغيرة في هذا المشهد الطبيعي هي التي يتذكرها المرء بعد مشاهدة الفيلم.  يعد هذا الفيلم آخر مظاهر انعكاس النزعة الإنسانية في كوروساوا والتي تسلط الضوء على أفلامه. يُعد فيلم درسو أوزالا أحد الشهادات الأخيرة والأكثر إقناعًا لأطروحة رئيسية في أفلام المخرج: حقيقة الشجاعة في مواجهة الموت.