بيت موندريان.. روحٌ متعطشة إلى يقين المتصوفين
جمال العتابي
يُعدّ الرسام الهولندي موندريان أحد روّاد ومؤسسي ومنظري المدرسة التجريدية في التشكيل المعاصر، إذ ابتكر فناً قائماً على الخطوط المستقيمة وتحرير نفسه من الحاجة إلى تصوير الواقع، فتجنّب الخط المنحني والإيهام بالبعد، فاللوحة في رأيه فراغ مسطح أملس، والخطوط والأشكال والألوان التي تتحرك عليه هي التشكيل الذي يخالط العقل، هو كغيره من الفنانين الحداثيين أراد التعبير عن الأفكار تجريدياً، نقلَ الرسم إلى ما وراء التصوير الطبيعي، وجعلَ من الأشكال الهندسية أساساً للتصميم سواءً في الرسم أم النحت أم في العمارة.
ولد موندريان في "آمرسفورت" الهولندية 1872، وعدّ كأشهر رسامي هولندا إلى جانب فان كوخ ورمبرانت. درس في أكاديمية أمستردام للفنون التي تمرّد على ركودها وأساليبها التقليدية، فمضى نحو نزعته "اللاموضوعية" يتقصى العلاقات الهندسية الكامنة في جوهر المرئيات المجهولة.
كان عقل هذا الطالب يستجيب لكل أفكار جديدة، كانت عيناه متفتحتين تصور الحقول والوجوه، كانت لوحاته الأولى تقليدية تماماً على مستوى الأسلوب والموضوع، وظل الريف الهولندي موضوعه المفضّل، كان الأسلوب انذاك مباشراً والتكوين لا مواربة فيه، والألوان عادة ناعمة متألقة، على الرغم من الميل إلى الألوان الرمادية والخضراء، وكانت مناظره الأثيرة، البيوت النائية المهجورة في أعماق الغابات المكتسية بألوان تثير أحاسيساً غامضة تنمّ عن مزاجه الصوفي، وحبّه الفياض للنبات والشجر. لكن ما لبث أن تحول "الموضوع" إلى أشياء مبهمة، لتجول الروح في تجديدات خالصة قوامها الخطوط وقليل من الألوان الأساسية فحسب. فبدأ في محاكاة مجموعة متنوعة من الأساليب المعاصرة، بما في ذلك الانطباعية، والانطباعية الجديدة، والرمزية، في أثناء محاولته العثور على أسلوبه الخاص، يمكن ملاحظة تأثير هذه الحركات الحديثة في تجربة موندريان من خلال رغبته في تفكيك العالم ومكوناته وعناصره، فاستوحى فكرته من التكعيبية التي قادها بيكاسو وبراك، أثناء انتقاله إلى باريس في 1912 ، وهناك تشرّب بتلك الأفكار.
عاد موندريان إلى هولندا قبيل نشوب الحرب العالمية الأولى بأسابيع، وظلّ فيها أربع سنوات ونصف، ورجع إلى باريس في 1919، لاينقطع عن رسم مناظر البحر وواجهات الكاتدرائيات، لينتهي منها دائماً إلى تكوينات من الخطوط الرأسية والأفقية.. كانت مدخلاً لنزعته التشكيلية الجديدة، إذ يرى أن التجريد هو السبيل الوحيد للإقتراب من الحقيقة والعودة إلى الأصول والبدايات، لكن ذلك لن يتحقق ما لم يمتلك الفنان قدراً عالياً من الوعي والحدس اللذين يمكنانه من بلوغ أعلى درجات الإيقاع والتناغم.
هذه النزعة هي خلاصة تأملاته وخبرته التي واجهت الاستهزاء أول الأمر، إلا أنه بفضل مضاء عزيمته وإيمانه الذي لا ينطفئ بقيمة عمله استطاع أن يكون واحداً من الفنانين الذين يرتكن اليهم في تطوير الفن الحديث ببطء وأناة أسلوبهم.
لم يولد هذا الاتجاه الفني لدى موندريان صدفة، بل مرّ بتجارب عديدة سابقة عليه، فأوصله تأمله إلى التجريد الخالص بصرامة هندسية، إذ بدأ ينشر ويؤصل اتجاهه هذا في كتابه "الفن الحديث" عبر إحساسه العميق بعالم محكم التنظيم، على أن عقلانيته المشوقة إلى نظام منطقي صارم تقترن بصوفية روحانية تمتزج بها امتزاجاً فريداً هو انعكاس للمظهر الشمولي للحقيقة . وفي هذا اتصف فنه بالوضوح والصراحة واستقامة الرؤية.
إن جدلية تكرار الخطوط المتعامدة، إيقاع جميل وتناغم مرئي لإدراك العمل الفني مع أقصى درجات الاختزال والتجريد اللوني في توظيف الألوان الأساسية "الأحمر، الأصفر، الأزرق" بصفائها ونقائها من دون مزج ، والألوان المحايدة "الأبيض والأسود" كـ "جار" حميم ودود لكل المساحات اللونية التي يستخدمها ليحقق مفهومه الخاص في "الصورة الخالصة". في لوحته "تكوين2" تعبير عن اهتمامه بالعلاقات الديالكتيكية والأفكار التي طرحها "هيغل" في أوائل القرن التاسع عشر، والتي تفيد بأن الفن والحضارة يتقدمان من خلال لحظات متتالية من التوتر والمصالحة، في هذه اللوحة ألوان متضادة تعبّر عن تأثره بالمقولات الفلسفية أنذاك، وبما يوحي أنه قارئ فلسفة لذاك العصر بشكل
جيد.
لم يعرض موندريان إلا قليلاً، ولم يبع إلا نادراً، عاش حياة بسيطة صامتة منعزلة في مرسمه أشبه بحياة النسّاك في محراب الفن، ومع ذلك فقد ذاع اسمه بفضل أسلوبه الجريء. وقد أثّرت أفكاره في الكثيرين من فناني الطليعة، كان وحدَه مذهبا فنياً له رؤيته الخاصة للفن، وأهدافه، وفلسفته القائمة على أن التجريد يقدّم جوهر الأشياء بدلاً عن الصور المزخرفة الوهمية في العالم الواقعي المرئي.
كتب موندريان عام 1926 يقول: نحتاج إلى جماليات جديدة مبنية على الروابط بين الخطوط والألوان الخالصة، وذلك لأن الجمال لا يتحقق إلا من خلالها، الجمال هو الوسيلة الوحيدة للتعبير عن القوة الشاملة في الأشياء، انه مماثل لما يعرف "القداسة" ولا غنى عنه نحن البشر المحكوم علينا بالموت في بحثنا عن التوازن اللازم
لحياتنا.
وعلى الرغم من أن موندريان يشير إلى العمارة في بعض كتاباته فقد ظل رساماً في المقام الأول، فأعماله التشكيلية تنطوي على نظرة معمارية، وتنبئ بعصر جديد تؤدّي فيه العمارة دوراً مهماً في المجتمع. والزاوية القائمة لُحمة العمارة وسداها، فالأبنية الراسخة ترتكز على عَمد قائمة، وأما ما عداها فهي ليست سوى زوائد وحواشٍ ونقوش. ان المعنى القائم وراء فنّه يرتكز على البحث عن نقاء الشكل، والرابطة الأساسية يخلقها خطّان مستقيمان يلتقيان عند رؤية زاوية قائمة.
في مجال اختياره هذه الحقيقة، يمكن القول بأن الزاوية القائمة إنما ترمز إلى الكمال، التقاء الخط الرأسي بكل ما يحمله من دلالات ومعاني للسمو، والتقائه بالخط الأفقي بما يبعثه من مشاعر في السكون والتوازن، من خلال هذا الالتقاء استطاع موندريان إزالة التوتر، فالتعامد أساس تركيب الوجود، وللروح الحائرة بين ظواهر الكون، يحقق الثقة والطمأنينة التي كانت تسعى إليها روح موندريان المتعطشة إلى اليقين بروحانية المتصوفين.
انضم عام 1930 إلى جماعة "المربع والدائرة" من التجريديين المناؤين للتيار السريالي المتصاعد، ثم انضم إلى جماعة "التجريد والخلق" عام 1931، وكان واحداً من أعضائها البارزين.
عندما شعر بأن الحرب العالمية الثانية وشيكة الوقوع، وباريس ستكون عرضة لهجمات الألمان رحل إلى لندن في 1938، لم يبق فيها سوى عامين بعد أن دمّرت القنابل النازية مرسمه فيها، فرحل إلى نيويورك عام 1940، فيها أنجز العديد من لوحاته بعد التحسن الطفيف والشعور بالرضا والاستقرار في الأعوام الأخيرة من حياته، توفي هناك في أول شباط 1944 ، والحق انه لم ينل حقه من التقدير إلا بعد وفاته، فكان له الأثر في تصاميم الديكور والمنازل والأدوات المنزلية، وامتداده كان واضحاً وطبيعياً في فن الـ "op- art". ومن المفارقة أن يكتشف مسؤولو متحف مدينة "دوسلدروف" الألمانية لوحة معروضة لموندريان ظلّت معلقة بالمقلوب في متحف الفن المعاصر في نيويورك لأكثر من سبعة عقود! لحين إعادتها إلى ألمانيا فوضعت بالشكل الصحيح. اللوحة عبارة عن خطوط حمراء وصفراء وزرقاء بزوايا
قائمة.