التراث.. قراءةً وتمثُّلاً
بابل: صلاح حسن السيلاوي
ألقى الناقد والشاعر الدكتور وسام حسين العبيدي محاضرة بعنوان "مفهوم التراث قراءة وتمثلا" على قاعة الود للثقافة والفنون وسط مدينة الحلة، عبر أمسية أدارها الدكتور أحمد رحيم كريم الخفاجي.
ابتدأ العبيدي محاضرته في الأمسية التي هي جزء من كتاب يشتغل على تأليفه، وهو يشير إلى امتلاك الأمة العربية لتراث إنسانيّ حافل بالخبرات التي أفاد منها المتأخّرون من علماء وباحثين وغيرهم، بغضّ النظر عن مدار الحكم على جزئيات ذلك التراث، لافتا إلى أن ذلك التراث بحكم صدوره من أناسٍ جمعهم إطارٌ زمكانيٌّ محدّد، يكون من الطبيعي معبّرًا عن نزعاتهم الإنسانية المختلفة في مناشئها، والظروف التي شكّلت تلك النزعات، فضلاً عن المرجعيات الثقافية التي يمتح كلُّ واحدٍ منها، بما يقودُهُ إلى خبرةٍ معيّنة، تختلف عن خبرة الآخر.
ثم تحدث المحاضر عن بعض الإضاءات التي تكشف المراد من مفهوم التراث فقال: لم تكن أكثر الإضاءات المصطلحية لمفهوم التراث تخرج عن الإطار التقليدي/ السلفي، الذي لا ينظر إلى التراث بصفة عامة سوى كونه "كل ما وصل إلينا من الماضي داخل الحضارة السائدة"، ويتردّد هذا المفهوم عند آخرين في الإطار نفسه، من قبيل تعريف أحد الباحثين - بخصوص حديثه عن التراث العربي- بأنه "مجموع ما ورثناه أو أورثتنا إياه أمتنا العربية من الخبرات والإنجازات الأدبية والفنية والعلمية، ابتداءً من أعرق عصورها إيغالاً في التاريخ حتى أعلى ذروة بلغتها في تقدمها الحضاري"، وبهذا المعنى يكون التراث شاملاً لكل فروع المعرفة الإنسانية من تاريخ الأمة السياسي والاجتماعي والنظم الاقتصادية والقانونية التي شرعتها، ومجموع خبراتها الأدبية ومنجزاتها في الطب والكيمياء والفلك والفيزياء وعلم الاجتماع والنفس وفن التصوير والعمارة، فضلاً عن الخبرات المكتسبة عن طريق الممارسات اليومية والعلائق الاجتماعية التي كثيرًا ما تصاغ في حكايات وخرافات وأمثال وحكم وغيرها من خطابات تجري على ألسنة الناس بأساليب تعبيرية متنوعة تعكس خبراتهم النفسية والوجدانية ونشاطاتهم التخييلية ومواقعهم الاجتماعية ومواقفهم السياسية...الخ.
وهي نظرة تحترم التراث على أي حال، وبموجب ذلك الاحترام، فهي تقف بالضد من الموقف الانتقائي للتراث الذي "يأخذ من التراث ما يخدم آيديولوجيته ويسند نظرته، ويُهمل ما سوى ذلك بحجة أنه غير عصراني، أو لا ينطوي على قيم أخلاقية حضارية"؛ لأنه ينطوي أحيانًا على قسرٍ للنصوص وأحادية في الأخذ والتفسير والرؤية. وبهذا الاتجاه، يصير التراث "لأول وهلة نوعا من عبادة الأصنام، ولكنه في حقيقته تعبير عن التمسك بالتقاليد واحترام العرف التاريخي وتقديس لدلالته". ومن هنا - بحسب أدونيس- يكون التراث في نظر المنهمكين فيه، فضاءً مثاليًا من النصوص لا يجري عليه التاريخ، وحين تسود مثل هذه النظرة التي تتعامل مع التراث بوصفه مقدّسًا لا ينبغي مناقشته في أيّ من وجوهه، يرتفع بيننا وبينه حجاب يعمل على إيحاء فكرة التقديس لذلك التراث، والقبول بنتائجه في كل الأحوال، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يسري ذلك التقديس إلى تقديس رجالات تلك العهود وجعلهم على مكانةٍ واحدة من الاحترام، تستلزم فيما بعد أنْ نعيد كل ممارساتهم من دون مراجعةٍ نقديةٍ لها، وتبنّي مواقفهم؛ لكونها صدرت من فئة لا يُحتمل أنْ تكون في لحظةٍ من حياتها أنْ تنحرف عن جادة الصواب، وتنزلق عن طريق العقل إلى مهاوي الذات وأهوائها السحيقة، باعتبار أنّ المثال المُحتذى "التراث بقضّه وقضيضه" صالح الاستعمال في كل منعطفاته، وليس لأحدٍ فضلٌ على أحد حتى يكون أنموذجًا لمثار الإعجاب والمؤهّل للاقتداء في سيرته وتعامله مع الآخرين.
وقال العبيدي أيضا: هذا النموذج من التعامل يتنافى والمنطق القرآني الذي عرضنا تفاصيله فيما سبق، إذ وجدنا في تضاعيف النص القرآني ما ينافي النمطية الثابتة في التعامل مع الجميع، ويُلغي التعميم سواء في أحكامه مع المؤمنين بالدين الخاتم أو بغيره من الأديان، كذلك فيما أخبرنا به من قصص وقعت لأنبيائه السابقين استفدنا منها ما أشرنا إلى ذكره، من خطورة مآلات الانقياد والتسليم بما كان عليه السلف من عادات وتقاليد وعبادات تُلغي وظيفة العقل في تقويمه الصواب من الخطأ، فالاحترام حين يصل بصاحبه أنْ يقدّس كل ما للآخر، فهو يكون احترامًا مذمومًا يجرُّ على صاحبه أنْ ينسلخ من هويته الإنسانية التي تميّزه عن سائر المخلوقات، بإجالة الفكر وتقليبه وفحص كل ما يدور حوله من أحداث وأفكار يختلف بعضها عن بعض باختلاف ظروفها، وسياقاتها الحافة بمناشئها، ولعلّ واحدة من الشواهد على خواء ذلك المنطق، ما ذكره القرآن الكريم عن أولئك المعاندين لقبول دعوة الدين في الإيمان بالله تعالى، بحجّة أنّهم وجدوا من سبقهم يُمارسون هذه العادة أو ذلك التقليد أو تلك العبادة.
خطورة الإيمان المطلق بالتراث
وفي جانب آخر من محاضرته تحدث العبيدي عن خطورة الإيمان المطلق بالتراث وعدم اخضاعه للتأمل والكشف إذ قال موضحا: وقد تنبّه كثيرٌ من الباحثين لخطورة التسليم بالمطلق للتراث بوصفه المرهم لأدوائنا في وقتنا الحاضر؛ لكون مثل ذلك التسليم يتنافى و"المنطق الاجتماعي الذي يحكم حركة المجتمعات الحية [الذي] يرفض أنْ يكون سلوكها المعاصر تجسيدًا لنكوص ثقافي ومعرفي، فيُصبح التمسك الأعمى بالتفاصيل التراثية انغلاقًا، أو شعارًا مرفوعًا ضد المعاصرة، بدعوى الحفاظ على الهوية الثقافية"، وليس من الصواب أنْ يكون التعامل مع التراث بهذه النمطية التي تُلغي في نتيجتها النهائية إنسانية الطرفين: المُعطى التراثي، والمستلم لذلك المعطى، وتعطي المسوّغ لمن يريد الإجهاز على ذلك التراث بما يتركه من آثار وخيمة تتمثّل في الانعزال عن ركب التطور العالمي، "فالتمسك الأعمى بكل مفاصل التراث وإلباسه عباءة القداسة دون النظر فيه نظرًا علميا معاصرا ودون قراءته قراءة حرة مُسائلة، قد يسوّغ في تداعي الثقافة المعاصرة وفي تهشيمها. وذلك يأتي من خلال عزلها عن سياق المعاصرة الكونية لثقافات العالم". وإلا ما معنى أنْ يتعامل كثيرٌ من أبناء هذا المجتمع المعاصر لشؤون وشجون متداخلة في صميم حياتهم، وفق معطيات التراث - على امتداد الدلالة الواسعة لهذا المفهوم- بإشكالاته المعبّرة عن عصره لا عن عصرنا، وبالمحصِّلة يتأكد لنا قول المفكّر محمد عابد الجابري بأنّنا "ما زلنا سجناء الرؤية والمفاهيم والمناهج القديمة التي وجّهتهم مما يجرّنا، دون أنْ نشعر، إلى الانخراط في صراعات الماضي ومشاكله، إلى جعل حاضرنا مشغولاً بمشاكل ماضينا وبالتالي النظر إلى المستقبل بتوجيه من مشاكل الماضي وصراعاته"! وهذه النتيجة المؤسفة التي ننساقُ إليها سواء أقصدنا السير إليها أم لم نقصد، هي التي سنجنيها إذا جعلنا التراث مقدّسًا بقضّه وقضيضه.
الموقفان التقليدي والانتقائي
تحدث المحاضر عن الموقفين التقليدي والانتقائي بالوقوف عند التراث والأخذ منه بقوله: ولما كان الموقف التقليدي من التراث يقع في مثل هكذا انحرافات تُبعده عن الوظيفة التي ينبغي أنْ يتصدّى لها، أو التي يُفترض أنْ يُصار إليه من أهداف تعزّز الحاضر والمستقبل بخبرات الماضي وتجاربه، فهل سيكون الموقف "الانتقائي" أفضل حالاً منه؟ وهي حيرةٌ استوقفت كثيرٌ من الباحثين والمفكّرين العاملين في حقل التراث، منهم الدكتور زكي نجيب محمود في قوله: "ما الذي نأخذه وما الذي نتركه من القيم التي انبثت فيما خلّف لنا الأقدمون؟ وهل في مستطاعنا أنْ نأخذ وأن ندع على هوانا؟ ثم ما الذي نأخذه وما الذي نتركه من هذه الثقافة الجديدة التي تهبّ علينا ريحها من أوربا وأمريكا كأنها الأعاصير العاتية؟ ثم هل في مستطاعنا أنْ نقف منها هذه الوقفة التي تنتقي وتختار، وبعد ذلك كيف ننسج الخيوط التي استللناها من قماشة التراث، مع الخيوط التي انتقيناها من قماشة الثقافة الأوروبية والأمريكية".
بعد ذلك ذهب العبيدي الى أن الانتقائية في التعامل مع التراث ليست خيارًا سهلاً يُتاح للجميع الأخذ به، لافتا إلى أن جميع التيارات من ماركسية أو قومية بشقيها: العلماني والإسلامي، وعلمية بشقيها: البراغماتي والابستمولوجي، أعملت معاولها في منجم التراث بحثًا عما ينسجم وتوجّهات كل تيار فكري وخصوصياته الآيديولوجية، وما يصبو إليه من طموحات، مشيرا إلى أن ذلك يجعل من الانتقائية متشعبة إلى انتقائياتٍ متعددة ، كلُّ واحدةٍ منها لا يهمُّها غير أنْ تجد في التراث ما يناسب مقاساتها الفكرية، وتجد لكلِّ تيارٍ منها ما يُقنع جمهوره بأنّ ما يقوم به هو الأكثر صوابًا من سواه، وهذا برأيه يوقعنا بمحاذير أُخَر لا تقلُّ خطورةً عن التسليم الأعمى للتراث، يُسمّيها المفكّر جورج طرابيشي بـ"منهج الإسقاط الآيديولوجي".
وتساءل المحاضر: إذن ما هو الحل السليم الذي يُخرجنا من مأزق الانتقائية بحسب "منهج الإسقاط الآيديولوجي"؟ بعد أنْ تبيّن لنا وهم التصوّر القائل بوجود موقف يسلِّم بأخذ الموروث بأجمعه، في ضوء اختلاف التوجّهات البشرية التي لا يخلو منها مجتمع في أي زمن؟
ثم أجاب على تساؤله بقوله: هنا نعود ونذكّر بما استعرضناه من قبل بأنّ الانتقائية ليست سلبيةً في كلِّ صورها، بل ذكرنا الجانب الإيجابي منها أيضًا، فهي لارتكازها على مفهوم الاختلاف الذي بموجبه ينقسم إلى اختلافٍ مقبول في ضوء المقدّمات القبْلية في العقل، واختلافٍ غير مقبول ناشئٍ عن أهواء وأمزجة لا يعنيها موافقة العقل فيما يتخذه صاحبه من اختيار، تكون نسبية، وليس الحكم عليها بالصواب أو الخطأ، إلا بحسب المعطيات الموضوعية التي تشكّل منها ذلك الانتقاء.