اللهجات الشعبيَّة والبيولوجيا

منصة 2024/06/26
...

 أحمد شمس

أسميته تأمّلاً لأنّه طرح قائم على الملاحظة وبالضرورة على الملاحظة بالمشاركة، فقط. ولم يخضع للفحص العيادي البيولوجي فهي فكرة لاحظها الباحث -والملاحظة تعدّ دليلاً علميّاً في الأنثروبولوجيا- لكن للتأكد من صدقها تحتاج إلى مختبر، لكنّها ليست فرضيّة مطلقاً لأنَّ الباحث لمس واقعاً أحاله إليها لذلك هي مسألة أنثروبولوجية.
يعتقد اللسانيون أو اللغويون على وجه التحديد أن ما يدعى بـ "اللهجات الشعبيّة" ما هي إلا تطورات حصلت على اللغة بفعل الاستعمال اليومي للتخفيف أو لضغط زمن التكلّم أو لأسباب أخرى كثيرة يوردها أهل الاختصاص، يرى هؤلاء المختصّون أن هذه التطورات هي إجراءات تغيير وتبديل وتعديل تمت على اللغة نفسها، أجراها الإنسان وله في ذلك مسوغاته غير البيولوجية.
هذه الرؤية مقبولة كتفسير لواقع ما يجري على اللغة نفسها، لكنها تجاهلت ما يجري على اللسان البيولوجي ولم تخضعه للمختبر مع أن الأنثروبولوجيين اللغويين اختبروا الأصل البيولوجي للغة فظهرت نظريات كثيرة تربط بين نشأة اللغة والجهاز الصوتي في جسم الإنسان مع الإشارة إلى أن "إدورد سابير" قد نفى تأثر اللغة بالمحيط وهذا الأخير قد عده بعض الباحثين مؤثراً مباشراً في تكيف الجهاز الصوتي عند الإنسان وهو ما نفاه سابير لعلاقة اللغة بالثقافة ورؤى العالم. مع أنّ هذه الرؤية تبدو واقعيَّة وحقيقيَّة ومقنعة أكثر من سابقتها إلا أنها لا تنفي إمكان تطور النظام الصوتي وعملية الكلام بتطور جسم الإنسان وتقنيات الجهاز الصوتي لديه. لأن سابير استهدف الإيكولوجيا "البيئة" بنفيه ولم يتطرّق للبيولوجيا في مقالته الشهيرة "اللغة والمحيط".
إنّ اللهجات الشعبيَّة التي هي تطور واضح للغة العربيَّة، لا خلاف في أن جزءاً كبيراً من تطورها هذا جرى لأسباب ثقافيّة بالكامل، لكننا لو تذكرنا أن البيولوجيا متأثرة بالثقافة وهذه مسألة قد تكون مما تسالم عليه العلماء سواء في مختبرات الطب البشري أو في ميادين الأنثروبولوجيا فالسلوك اليومي والمتكرر ينتج استجابات جسديَّة بالضرورة وهذه الاستجابات على المدى الطويل قد تدخل في الجينات وتدخل مسارات الوراثة وقد يستغرق هذا الأمر ملايين السنين، وربما أكثر أو أقل، فلم يتمكّن العلم من تحديد المدد الزمنيّة التي تحدث فيها الطفرات الجينيّة أو الوراثيّة في الإنسان سواء بشكل جذري أو بشكل جزئي يتمثل بتعديلات قد تكون طفيفة أو كبيرة على أحد أجهزة الجسم. ومن ثمَّ يمكن الحديث عن التطورات اللغويّة على الأقل من وجهة نظر ثقافيّة لفهم علاقة البيولوجيا بها.
إنَّ اختلاف مجتمعات اللهجة الواحدة والثقافة الواحدة -أقول لهجة للإشارة إلى اللسان البيولوجي- في بعض الأصوات وفي بعض الصيغ والتراكيب اللغويَّة مع أنّهم ينتمون للثقافة ذاتها مع فارق واحد هو الجغرافيا، يوحي بأنَّ الموضوع أكبر من مجرد ثقافة منقولة بالتنشئة والتعليم "وراثة ثقافيَّة"، إنّ عملية الكلام التي يجريها الأفراد في المجالين الجغرافيين المختلفين للثقافة الواحدة تبرز بوضوح التمايز الكبير في طريقة النطق وبناء التراكيب والصيغ اللغويَّة وفق ما تتيحه إمكانات الجهاز الصوتي الجسماني.
لنأخذ مثالاً توضيحياً: نقول في الفصحى "ما أدري أيُّ شيءٍ هو/ هي"، تطورت في العراق "ما أدري" إلى "مدري" وتطورت "أي شيءٍ هو" إلى "شنهو/ شنهي" و "شنو/ شني" فلو أعدنا جمعها على أحد الأوجه تكون "مدري شنو" وهكذا جرت، لكننا نسمعها كثيرا بصوت "مَشْ شِني"، التساؤل هو: هل النحت وما يشبهه في اللغة بقي نحتاً أم أنه فرض صعوبة على اللسان في الترتيب المتتالي لبعض الأصوات؟، لنعد إلى الأمثلة، وليكن مثالنا الآتي: ابتكر اللسان العربي كلمة "اضطراد" ما يعني جريانها عليه، لكنه ما لبث أن مكّن التعديل فيها إلى "اطِّراد" لكن كلمة أخرى مقاربة هي "اضطراب" لا تختلف معها إلا في الصوت الأخير، شاع التعديل على الأولى وتخطى الثانية، هذا يفصح عن أن الأولى التي حرفها الأخير مقارب للمخارج الصوتية لحرفيها الأولين طالها التغيير، بينما الثانية حرفها الأخير خارج دائرة الحروف اللثوية الأولى فبقيت صامدة، أليس ذلك حديث عن امكانات الجهاز الصوتي ومن ثمَّ هو حديث بيولوجي؟.
إننا نلاحظ أن الفصاحة العربية في مجتمعاتنا -العراق أنموذجا- صارت صعبة على لسان الناطقين بها وتحتاج إلى تمرينات كثيرة ومجهدة وطويلة الأمد لكي يتقنها الجهاز الصوتي، لو كان هذا الجهاز مهيأً بيولوجيا لها، أليس من السهل إتقانها كما أتقنها أطفال عرب البادية قبل ألفي عام؟ فلماذا يحتاج جهازنا الصوتي إلى سنين من التدريب المتواصل من أجل أن نتكلم ساعة واحدة فقط كما كان يتكلم أسلافنا؟ أليس من الواجب أن نسأل: ماذا جرى لألسنتنا؟ مع اعترافنا بأنّ كل ذلك شكوك قادت إليها الملاحظة ويجب اختبارها عياديا لتبين صدقها أو زيفها.
ليس بإمكاننا إنكار التطور البيولوجي في الجهاز الصوتي طالما إنه لم يُختبَر عياديا، وللسبب ذاته لا يمكننا إثباته تماما، لكن الشك بحصوله مسألة واقعية تظل مدار التساؤل لحين البت بها في المختبر البيولوجي.