د.جواد الزيدي
بعد نجاح الحلقة التعليمية التي أقيمت في السليمانية لفن الخزف، استضافت جامعة جيهان في مدينة أربيل ضمن فضاءاتها الخارجية وقاعاتها الداخلية سمبوزيوم الخزف العربي الأول للفترة من الأول من حزيران إلى الخامس منه، جزءاً من اهتماماتها الثقافية والفنية ورعاية هذه الأجناس الابداعية.
ولعل ما يميز هذا النشاط الفني هو اتساع المشاركة وتجاوزها حدود الوطن "العراق" وشمولها على مشاركات عربية، تم اصطفاء المشاركين بعناية العارف، لما تتركه من أثر على صعيد الأسماء، أو المنجزات التي ستترك بالتأكيد أثرها الكبير في تاريخ الخزف، أو المنطلقات الأساسية عندما التحمت الفعالية بالنشاط الجماهيري وانفتاحها على هذه الأوساط عندما تمت ممارسة جزء من الفعالية فوق "قلعة أربيل" أو في أسواق "شقلاوة" بحضور جموع المتسوقين والمارة في جميع الأمكنة، فضلاً عن حضور اساتذة الجامعة وطلبتها والمختصين بهذا الفن والفنون المجاورة. اقتصرت المشاركة على "5" فنانين من العراق هم "ماهر السامرائي، وشنيار عبدالله، وسعد العاني، وحيدر رؤوف، وهناء معلة" مع الفنان دانا صلاح الدين من أربيل الذي كان دليلاً وقيامه بمهمة تذليل المصاعب وتقديم الدعم اللوجستي ومشاركته الفاعلة وانجازه أعمال من الخزف التقليدي وفن الراكو أيضاً، فضلاً عن "7" مشاركات عربية "فواز الدويش من الكويت، وناصر حلبي من لبنان، ومحمد حشيشة من تونس، وطلال القاسمي من قطر، ومروان طواهة من الأردن، واحمد الشبيبي من سلطنة عمان". وقد توزعت الفعالية على خمسة أيام حسب البرنامج المرسوم لها، إذ اقتصرت الأيام الثلاثة الأُولى داخل الجامعة بفعاليات خزفية معروفة من خلال انجاز الأعمال بشكلها الأولي المصنوع من الطين واجراء عمليات التزجيج عليها داخل الأفران المٌعدة لذلك، في ما أُنجزت فعالية اليوم الرابع على قمة قلعة أربيل الذي كانت تختص "الراكو" بعدما نقل الفنانون أفرانهم وأدواتهم إلى هذا المكان وسط مدينة أربيل بمشاركة الجمهور الواسع ومشاهدته العملية وآليات الانجاز المعتمدة. وتم تكرار المحاولة في يومها الخامس داخل السوق الرئيس لمدينة شقلاوة وبالآلية ذاتها التي أقيمت وسط القلعة. وخلال الأيام الخمسة أنجز الفنانون العراقيون الخمسة "5" أعمال لكل منهم، وتكرست مشاركة الفنانين العرب على إنجاز أعمال موازية لذلك العدد المذكور، إذ تم عرض الأعمال التي تجاوزت "40" عملاً خزفياً في معرض أثناء ختام الفعالية أو "السمبوزيوم" وتم اهداء بعض الأعمال إلى جامعة جيهان راعية الفعالية، بمعدلات متباينة تصل إلى ثلاثة أعمال بحسب توجهات كل فنان ورغبته، وقد أهدى الفنانون العرب جميع ما أنجزوه، جزءاً من الوفاء وتذكاراً لتوثيق هذه الفعالية النوعية. إن مشاركة "12" فناناً عراقيا وعربيا بالتأكيد ستفضي إلى تباينات أُسلوبية وتقنية تحكمها فلسفة ورؤية كل منهم وطريقته في الانجاز، وبهذا ستتنوع الأساليب والخلاصات النهائية المُنجزة، إذ أن محمولات الفنان العربي تؤشر اختلافاً واضحاً عن محمولات الفنان العراقي، وتتمايز من بلدٍ إلى آخر بحسب المرجعيات والاهتمام والنظم الدراسية والأكاديمية، على الرغم من مرجعيات بعض الفنانين العرب ودراستهم في الأكاديميات الفنية العراقية، بيد إن هذا لا يلغي الفروق الفردية، أو تأثيرات العالم الموضوعي التي تحيط الفنان ذاته في ضوء مشاهداته واطلاعه والمنجز الذي يتطلع إليه. وقد تكون مناسبة السمبوزيوم تكمن بعرض مهارات كل منهم وتجاربه الابداعية التي لم يصل اليها الضوء، بوصفها تجارب جديدة تم التحقق من مشيداتها الشكلية وتقنياتها إزاء المختبرات المعرفية، ومسارات التجريب، مثلما فعل الخزاف شنيار عبدالله في نزوعه الأخير إلى تقنيات "الراكو الخزفية" وتفكيك منظومات حالية عمل عليها الخزف العالمي واطلاعه على ما أُنتج في شرق آسيا "الصين، واليابان" على سبيل المثل، لا الحصر، أو كما تشير توجهات ماهر السامرائي إلى بنائية شكلية مغايرة لما عُرف عنه من أُسلوب استثمر فيه الصحون الدائرية والكتابات الذهبية بالخطوط المصحفية القديمة، بينما لجأ الآن إلى القُطع المتعددة المنفصلة لتشييد الشكل النهائي للعمل الخزفي، بما يفتح الدلالة وامكانية تأويلها إلى مديات أوسع، على الرغم من التزامه بالتقانة ذاتها، إلا إن بنيته التحديثية جاءت من داخل المنظومة ذاتها.
ويستمر كلا من "حيدر رؤوف، وهناء معلة" في الوصول إلى خطاب يتجاوز الأُطر التقليدية على مستوى تلقي الخزف من خلال توظيف مرموزات انسانية وعراقية، وصولاً إلى التجريد الخالص في بعض البنيات الأساسية. بينما يفاجئنا الفنان سعد العاني كل مرة بتقديم انموذجه الابداعي الجديد على مستوى تقنيات الخزف التقليدية مع تحولات جوهرية في بنية الشكل، أو على صعيد خزف "الراكو" وتقنياته الخاصة، بيد أنه يلجأ إلى توطين خطابه الخزفي الخاص، بما يخدم أغراضه الجمالية الذاتية، أو تنميط صورة خاصة للخزف العراقي المعاصر، انطلاقا من المعطيات الجمالية التي يشي بها فن الخزف، وعبر هذا كله يحتفظ برؤيته العراقية القابعة في أعماق التاريخ واستنهاض جوهر الخزف العراقي عبر آلاف السنين التي تحتفظ بعطره الجمالي وشقوقه وخربشاته. يُمثل سعد العاني عقلاً خزفياً مفكرا يعيش للخزف، ومن أجله، بفعل الجديد المفارق المتغير على الدوام، لإنتاج خزف ينطوي على قيم الجمال من جهة، وعلى مواءمته للتوصلات التقنية التي يشي بها العلم وفن الخزف في أماكن متفرقة من العالم، فأطواقه الملتوية الموشحة بالحروف والكتابات والزخارف الهندسية والنباتية، وجراره المتعددة التي تحتمي أحداها بالأخرى، وخرفياته الكروية والبيضية وهي تحمل كتابات كوفية كأنها جزء مقتطع من تلك الأفاريز في جوامع المدن التي تغنى بها مظفر النواب ذات مرة وهي تشير إلى صلاة الصبح. هذا المناخ على صعيد اللون الأزرق الشذري، والتركواز، وموحيات الزخارف والكتابات يحمل صبغة الهوية العراقية التي يبحث عنها العاني.