مهيمنات الصورة السرديَّة وتقنيات السيناريو

ثقافة 2024/06/27
...

  عبد علي حسن


يقترن "التصوير" بالمتخيل الإبداعي لأيما منجز أدبي شعراً كان أم نثراً، فمنذ أرسطو ولحد الآن مروراً بالنقد البلاغي العربي القديم حازت "الصورة" على اهتمام النقاد والباحثين نظراً لما تتمتع به عملية تخليق الصورة من أثر في تأثير المنجز الإبداعي وتأثيث مخيلة المتلقي وذائقته الجمالية. 

وكلما كانت الصورة مبتكرة وجديدة فإن المنجز كان في موقع الفاعلية والتأثير جمالياً ومعرفياً، واذا شئنا الوقوف على تعددية المفاهيم والتعريفات لمصطلح "الصورة" فإننا سنجد بأن هذا المصطلح قد خضع لصيرورة زمانية تمتد من اليونانيين وإلى زمننا هذا، وللنقاد العرب القدامى مساهمة مهمة بهذا الخصوص. ولعل أبرزها تعريف الجاحظ "فإنما الشعر صناعة وضرب من النسيج وجنس من التصوير"، فتكوين الشعر عند الجاحظ قائم على التصوير، أي الشيء التخيلية الذهني، ولم يخرج عن ذلك قدامة بن جعفر وأبو هلال العسكري وكذلك عبد القاهر الجرجاني في تقديمهم لمفاهيم الصورة ومكانتها في الشعر، أما الصورة السردية فهي لغوية تخييلية وابداعية وإنسانية، تتشكل في رحم السرد، وتتفاعل مع مجموعة من المكونات التي تشكل الحبكة السردية. ويرى د. عز الدين اسماعيل أن هناك فرقا كبيرا بين الصورة الشعرية والصورة السردية، ويشير إلى أن الصورة الشعرية هي حلم  الشاعر الذي لا يعترف بالتنسيق المنطقي للزمن ولا بالسببية، في حين يرتبط المشهد القصصي/ الصورة بموضوعية الزمن. ومن هنا تتبدى لنا خاصية الصورة السردية لامتلاك مرجعيات متعددة/ تاريخية، فلسفية، ادبية أسطورية، دينية، وقطعاً فإن هذه المرجعيات تحتكم إلى صيرورات زمنية متتالية باختلاف زمن الأحداث وطبيعة الشخصيات السردية.

 تمكنت قراءتنا لقصص مجموعة "تنورة جينز قصيرة" اصدار اتحاد الأدباء  لمآب عامر الفائزة بالجائزة الثانية في حقل القصة القصيرة 2024، من وضع اليد على تقنية الصورة السردية في جميع قصص المجموعة وفق مهمتين، الأولى هو قيام الصورة بوظيفة تشكيل المشهد السردي عبر تضافر مجموعة من الصور لإنجاز مهمة تخليق المشهد السردي، الثانية هو الاهتمام بالصورة السردية بعدّها تخييل ذهني قادر على رسم حالة لا تشمل. 

الوضع الإنساني للشخصيات وإنما لتوصيف حالات أخرى تشمل اركان السرد الأخرى الزمان/ المكان/ الأحداث، ويدور فعل هاتين المهمّتين في منطقة المرجعية الأدبية التي كوّنت بنية مركزية على مستوى الاعتناء وتفعيل بنائية السرد في أغلب قصص المجموعة. 

باعتبار أن التعبير الأدبي هو الوسيلة التي يتوسل بها الكاتب في توصيل أفكاره وأحاسيسه للمتلقي، فهو- الأدب- الكلام المحمّل بالقيم الجمالية لتصوير الفكر والعاطفة التي يحرص الكاتب على توصيلها للمتلقي، لذا فإن "الصورة" في قصص المجموعة مدار البحث قد تمركزت في موقعها الأدبي وأبدعت في تجسيد الصور الواقعية أو توثيق الصور الخيالية داخل نطاق السرد القصصي لتسهم في تخليق التشكيل الجمالي السرد، وفي ذات الوقت تمهد الطريق أمام المتلقي ليفهم مقاصد وغايات القاصّة، فقد اتبعت عامر جملة من الأساليب للوصول إلى تحقيق غاياتها كالاستعارة والتشبيه والترميز والإيحاء والإشارة والحوار الداخلي والوصف التفصيلي والتداعي والارتباط الانتقالي، إذ أسهمت هذه الأساليب في تمكين الصورة السردية في قصص المجموعة لأداء المهمتين اللّتين أشرت إليهما آنفاً كما سيتبين لاحقاً.

في قصة "الأبواب مغلقة" واعتباراً من العنوان الذي تكون من جملة خبرية/ سردية ذات بعد دلالي ممتد ومنفتح على تأويلات عديدة على مستوى استقلالية البنية من جهة وتعالقها مع مجريات النص التي حرصت فيه القاصة كما أغلب قصص المجموعة على تجريد الشخصيات من التعريف المقصود عبر نزع "ال" التعريف لتؤكد عبور النص للمكان والشخصيات لتكون مشاعة الحضور في أي زمان ومكان، ففي مستهل القصة تترادف الجمل المشكّلة للصور السردية لترسم مشهد يقترب من بنائية السيناريو "ساعات ليل حالكة، وميض تلفاز خفيف داخل غرفة مظلمة، ثلاث نساء وطفلة يجلسن على الأرض، ملتفات حول شاشة، يتابعن بشغف احداث فيلم "الأبواب مغلقة".

فهذا الاستهلال قد وضع المتلقي أمام مشهد سردي تتابعت الصور السردية لتشكيله وليكون العنوان قد حاز على دلالة أولية وهي أنه اسم لفيلم تتابعه النسوة الثلاث والطفلة، فقد وزعت القاصة مكونات هذا المشهد زمانياً ومكانيا وشخصيات بشكل توصيفي اقترب كثيراً من بنائية السيناريو الذي يلجأ إليه الكثير من الروائيين والقصصاصين، فهو الخريطة التي اتبعتها القاصة عبر اركان السرد/ الحدث والشخصيات والزمان والمكان لتحويل الفكرة إلى عمل فني متكامل ومفهوم، فقد أسهمت بنائية السيناريو ومن خلال الصور السردية في تأثيث الفضاء المتوتر والمرعب على مستوى الشخصيات والتلقي منذ اللحظة التي انطفأ بها جهاز التلفاز الذي كان يبث فيلم "الأبواب مغلقة" بفعل انقطاع التيار الكهربائي وانتقال التوتر الذي كانت تعيشه النسوة الثلاث والطفلة وهن يتابعن أحداث الفيلم وكذلك سماع أصوات اطلاقات نارية بعيدة وحصول جو نفسي مأزوم في كل من في البيت/ النسوة والطفلة والجدة العجوز نتيجة العتمة التي شملت أرجاء البيت وما يحيطه حتى الحديقة الموصلة بين البيت والباب الخارجي الأحمر المغلق، الأمر الذي دفع بالأم إلى اشعال الفانوس وتفقد أرجاء البيت وخارجه عبر النافذة، ومما زاد في إثارة الرعب والتوتر هو سماع طرقات على الباب الخارجي الأحمر، وزيادة قوتها فيما بعد، الأمر الذي خلق حالة استنفار وترقب في أرجاء البيت، في حين بادرت الفتاة إلى إحضار بندقية الكلاشنكوف لمواجهة أي طارئ، مما دفع بالأم إلى الخروج بفانوسها إلى الحديقة ثم إلى الباب الخارجي الذي وجدت عنده امرأتين اعربتا عن الخطأ في الاستدلال بالباب المقصود، وفي البيت كانت هناك غرفة بسرير يستلقي فيه مستغرقاً بنومه شاب عشريني محتضناً وسادة لا يعلم ما كان يجري.

لقد تمكنت صياغة الصور السردية بشكلها الأدبي وتلاحق سريانها في بنية النص السردي من تخليق فضاء الرعب والتوتر الناجم عن ظروف غير طبيعية وغير آمنة سواء كانت خارج البيت أم داخله، وقد انعكس كل ذلك في تصرف النسوة والطفلة والجدة تلك التصرفات التي وصفتها الصور السردية وفق تقنية السيناريو افضل توصيف، كما اجتهدت القاصة في احكام العلاقة بين عنوان القصة والحدث الذي اختصت به نهاية القصة المتضمن الطرقات المجهولة لأبواب البيت المغلقة بعد منتصف الليل.

وفي قصة "على الرصيف" تواصل القاصة أسلوبها السابق في السرد الذي اعتمد بنائية الصور السردية وعبر تقنية السيناريو في نقل الأحداث المتخيلة، إذ تستخدم صفات مجردة دون تشخيص لكل شخصيات القصة "فتاة، طفلة، فتاتان" دون معرفة كاملة بالهويات الخاصة، ولعل وراء هذا الاسلوب هو تكريس حيثيات الحدث وجعله بنية مركزية والذي سنعرف عبر مجرياته حاجة الفتاة إلى ما يشبع بطنها، فهي منذ أمس لم تدخل فيها أي طعام، فتلجأ إلى مطعم صغير ملحق بالعمارة وتحاول الحصول على مبلغ أو لقمة من الفتاتين إلا أنها تفشل في ذلك وتنشغل مع طفلة ترافق أبويها في لعب بريء ريثما تنتهي الفتاتان من اكلهما للاجهاز على ما تبقى في الصحون لتهرب به إلى الرصيف خارج المطعم وتلتهمه برغبة جائع.

وفي قصة "بقعة" تجتهد عامر في استثمار حدث بسيط تتعرض له الشخصية المركزية "فتاة يافعة تدور بتمهل داخل المطبخ" محاولة إزالة بقعة سوداء أسفل الطباخ، وتتجه القصة عبر هذا الحدث البسيط الدخول إلى نفسية الفتاة التي اختارت زمناً يعزلها عن الٱخرين وهو وقت الفجر لتقوم بمهمة تنظيف ما علق بأرضية المطبخ من بقع طينية موحلة تركتها اثار اقدام مبللة، وإزاء هكذا حدث فإن للنص أن ينهض بمهمة بعيدة عما هو ظاهر في سطحه المنظور الذي تحوّل إلى مثابة من الممكن البدء منها لفهم ما يجري تحت سطح المسرود، ولا يمكن للنص أن يقوم بهذه المهمة إلّا عبر رسم مشهدية ما يجري في المطبخ من تعالق بين الفتاة والمكونات الأخرى مع الاحتفاظ بأثر تواجد الفتاة وقت الفجر الذي كوّن زمن السرد، حيث الٱخرون نيام ماعدا الفتاة في مواجهة مهمة إزالة البقعة السوداء التي تنجح أخيراً بعد جهد كبير عبر سوائل التنظيف والسكين لإزالة الجزء الغليظ منها، وينجح النص عبر تكوين الصور السردية من رسم المشهد بكل تفاصيله التي تضمنت أبعاداً دلالية تدفع المتلقي إلى بذل جهد تأويلي لوضع الفتاة الداخلي الذي لم يستجب إلى مشهدية التهالك والقٍدم التي اتصفت بها اثاث المطبخ. فقد برعت القاصة في توصيفها لمكونات المطبخ وتصرف الشخصية الوحيدة من خلال سيناريو رسم المشهد لتكوين وجهة نظر للطبيعة الطبقية لسكان البيت وأثرها في التكوين النفسي، إذ أن زوال البقعة السوداء وتحولها إلى بقعة ناصعة البياض وانعكاس هذا التحول على الشخصية يضع المتلقي في منطقة تأويلات متعددة اقربها هو امنيات الفتاة بالتخلص من وضع بائس وغير مريح في البيت المتهالك خارجياً منعكساً على دواخل الفتاة وهي الباحثة عن الهدوء والأمان.

من خلال ما تقدم من تحليل اجرائي لنماذج قصصية تضمنتها مجموعة "تنورة جينز قصيرة" نخلص إلى قصدية القاصة في تكريس بعض الملامح الإسلوبية الأساسية المتفردة التي اتبعتها القاصة في سردها القصصي ومن هذه الملامح: الإعتناء بكيفية سرد الحدث الذي غالباً ما اتّسم بالبساطة التي تضمر في عمقها معانٍ تخضع لتأويل المتلقي، وتجريد الشخصيات من هويتها التعريفية بنزع ادوات التعريف لتأخذ أبعاداً شمولية إنسانية تغادر زمكانية الحدث، واعتماد الصورة السردية في أبعادها اللغوية والتركيبية والدلالية لتوصيف تفاصيل الحدث وحركة الشخصيات لإثراء الذائقة الأدبية لدى المتلقي، وكذلك اعتماد تقنية السيناريو في التوصيف وعلى مستوى الأحداث والشخصيات لتعميق صلة المتلقي وتمكينه من ملاحقة مجريات السرد. لقد تمكنت مآب عامر في مجموعتها القصصية هذه من تقديم نفسها كقاصّة ذات معرفة باللعبة السردية التي ننتظر تطورها لاحقاً في القابل من الأيام.