خذلان.. أو ما يُشبه ذلك

ثقافة 2024/06/27
...

  طالب عبد العزيز



لو أنني لم أرَ الحديدَ في فُرّنِ الحداد

لظلَّ المنجلُ بيدي هِلالاً أصفرَ إلى اليوم.. 

لو أنني بقيتُ جالساً تحت الشجرة حيثُ غرسَ أبي

لما تشوقتُ لرؤيةِ العنادلُ هكذا..

لو أنني ما زلتُ أركضُ وراءَه

لكانت السماءُ غيرَ السماء

والأرضُ غيرَ الارض

ولعدّتُ بالكثير من النجوم في جيبي.


ولو أنَّني لم أظمأ إلى الماء الذي جرى في الحلم البارحة

لتمددتُ على السرير، باحثاً عن ثديِّ أمّي

ولأحسنتُ الظنِّ كثيراً بالعصافير،

قبل أنْ تطيرَ من قميصها.


لو أنني تجرّأتُ وجعلتُ طريقي إلى المقبرة

لكانَ تابوتُ أمّي في أحلامي مجردَ صندوق، لا أكثر  

لو أنني لم أهتدِ إلى بيتنا في الظلام

لكنتُ إلى الآن ملاكاً، نائماً في أجمل الغابات...

ولو لم يكن الشراعُ "يشماغَ" أبي الضائع

لما أغرتني السواحلُ بانتظارهِ عائداً، باللؤلؤ والسلطعون

ولو أنَّ عمود النور ظلَّ لصقَ حائطِ بيتنا إلى اليوم

لما زلتُ صاعداً نازلاً،

مستأنساً بعصا أبي، وهي تُخطئني دائماً.


أما آنَ لقطعةِ السماءِ العالقة في النخل

أنْ تترفقَ بعينِ الصبيِّ الذي ما زلته؟

ولو أنَّها لم تزل نائمةً في أقصى السباخ

لكانت القبّراتُ أقلَّ فزعاً لي.

أحدُهم جرجرَ بحبل ظنوني فما عدتُ أثقُ بأحد!

هذهِ التي تتفتُتُ صورتُها في الزئبق

ولا مستقر آمناً لها..

أسمّيها روحي.. حتى وهي تنزلق في التراب.


لو أنَّ جارتنا العجوز مازالت تبحثُ عن دجاجاتها

لظلَّ الثعلبُ كائناً مسلّياً، لا أحدَ يصدِّق ما ينسب اليه

لو أنَّ المقهى لم تزل قائمةً قرب جسر السراجي الخشب  

لأرجحتُ قدميَّ، متوهماً سمكةً ستقضمها..

كانت الطريق إلى بيتنا نخلاً ومنازلَ سعفٍ وقصب

واهمٌ، من يعتقدُ بأنَّ المدنَ حجرٌ ودكاكينُ كثيرة..

أنا قطرة الماء التي تبخرت في ورقةِ التوت أمس

عُرجونٌ أراد أنْ يستقيم فخذلته أكفٌّ كثيرة.


عودُ حلفاء أسقطه عصفورٌ أراد اللحاقَ بأمّه

قطعة قرميد لم تثلمها حمرةُ الشفق يوما ما

لذا، ظلّت معلقةً باِنتظار شفق آخر سيأتي

كنتُ كراسةً بيد صبيٍّ مات عنه معلّمُ الرّسم

لا الألوانُ تتذكره، ولا البقرةُ التي نامت على النهر في ورقته.


هذه التي تمدُّ يدها لي، أعرفُها، هي

هي النغمة المحاصرة في أوركيسترا الصمت.


كلنا يذوب:

أنتَ في الماء الذي تمرّره على جسدك

وأولئكَ في طوافِهم حول الحجر

وذاك في الشّوق الذي يُمضّه

وهذه في النأيِّ والسُّهد

إلّا أنا.. الهواءُ

جامداً أظلُّ

باِنتظاركَ.