العمل الفني.. لماذا نتذكره أو ننساه؟
سسيليا فورد
ترجمة: مظفر لامي
تشير الدراسات الحديثة إلى أننا ننسى الغالبية العظمى من الأعمال الفنية التي نشاهدها مباشرة أو نطلع عليها في الكتب والمجلات، لكن البعض منها يظل عالقًا في أذهاننا، ومن المرجح أن ما نتذكره منها يتذكره الآخرون أيضًا. و"تذكر الصورة" هو المصطلح العلمي الذي يطلق على هذه الظاهرة.
يقول طالب الدكتوراه في علوم الحاسبات في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا كاميلو فوسكو: "الفكرة بإيجاز؛ هناك بعض الأنماط الجوهرية التي تجعل بعض المحتوى أكثر قابلية للتذكر من غيره" وبعبارة أخرى، تحتوي بعض القطع الفنية على عناصر مجهولة لنا، يسعى فريق من العلماء المتخصصين في الذكاء الاصطناعي لاكتشاف ماهيتها.
وفي دراسة نشرت مؤخرا أظهر الباحثان "ترينت ديفيس وويلما بينبريدج" من جامعة شيكاغو أن إمكانية تذكر الأعمال الفنية ليست متماثلة بين الأشخاص فحسب، بل يمكن التنبؤ بها بواسطة الذكاء الاصطناعي.
في تجربة عبر الإنترنت، تم سحب حوالي 4000 لوحة من قاعدة بيانات معهد شيكاغو للفنون، استثنيت منها الأعمال التي وصفت من قبل المعهد بأنها "مميزة" أو لها شهرة خاصة.
وقد شاهد أكثر من 3200 شخص هذه الأعمال، بنسبة 40 شخص لكل لوحة. ثم عرضت اللوحات التي تمت مشاهدتها مع لوحات جديدة، وطلب من المتطوعين الإشارة للوحات التي يتذكرونها. وكانت الإجابات متماثلة، فالجميع كانوا متقاربين في تذكر أو نسيان نفس الصور. في تجربة أخرى استخدمت فيها شبكة عصبية للتعلم العميق تسمى ResMem، مصممة من قبل عالم البيانات كوين نيدل كجزء من أطروحته لنيل شهادة الماجستير، تمكن فريق البحث من التنبؤ بمدى احتمالية نسيان أو تذكر اللوحات، حيث يقترب هذا النظام من محاكاة الكيفية التي يقوم بها النظام البصري عند البشر بتمرير المعلومات من شبكة العين إلى القشرة الدماغية، ليتم أولا معالجة المعلومات الأساسية مثل الحواف والملمس والأنماط، ثم التوسع في المزيد من المعلومات المجردة، مثل معنى الشيء. وكانت النتائج التي حققها النظام قريبة جدا من تلك التي قدمها الأشخاص في التجربة التي أجريت عبر الإنترنت، على الرغم من أن الذكاء الاصطناعي لم يزود مسبقا بمعلومات عن السياق الثقافي أو شهرة وأهمية أي من الأعمال الفنية المشاركة في التجربة. تشير هذه النتائج، على نحو مخالف لما هو متوقع، إن تذكرنا للأعمال الفنية لا علاقة له بخبرتنا أو فهمنا الشخصي للجمال والمعنى، بل يتعلق أكثر بالعمل الفني نفسه. الأمر الذي قد يكون له آثار كبيرة على الفنانين والمعلنين والمعلمين وأي شخص يأمل في جعل المحتوى الخاص به عالقا في الذاكرة. تقول بينبريدج "قد نعتقد أن الفن شيء شخصي للغاية، لكن الأمر الذي يدعو للدهشة أن الناس متماثلون في تذكر أو نسيان الأعمال الفنية. وعلى الرغم من أن التجربة في الانترنت كانت بداية ملفتة، إلا أن الأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو أن نتمكن من التنبؤ بالذاكرة في العالم الحقيقي". لذا قامت بينبريدج مع ديفيس، الذي كان حينها طالبًا جامعيًا، بتجنيد 19 شخصًا إضافيًا للتجول فعليًا في جناح الفن في المتحف الأمريكي، كما لو كانوا في جولة استكشافية مع أصدقاء. وكان الطلب الوحيد أن يشاهدوا العمل الفني الواحد مرة واحدة على الأقل. و بعد مغادرة المتحف، أجرى المشاركون اختبار الذاكرة في هواتفهم، وكما حدث في التجربة السابقة، أعطى نظام ResMem نتائج متقدمة في التنبؤ باللوحات التي تذكرها المشاركون في الاختبار. وهنا برز تساؤل عن القاسم المشترك بين تلك الأعمال التي تم تذكرها، وكان من المرجح أن تكون كبيرة الحجم أو تحيط بها قطع كبيرة في الحجم، وليس لأنها تتشابه في الموضوع، أو الحقبة التاريخية، أو الألوان المستخدمة أو السمة العاطفية؛ لذا بذل فريق بينبريدج جهودًا مضاعفة لمحاولة معرفة العناصر التي تعلق في الذاكرة دون
غيرها.
في تجربة ثالثة، شارك 40 شخصًا إضافيين عبر الإنترنت في تقييم الطابع الجمالي والنبرة العاطفية والعناصر المألوفة والمثيرة للاهتمام في كل لوحة شاهدها المشاركون في التجربة الثانية. وتبين أن العوامل الثلاث الأولى، بالإضافة للميزات المرئية الأساسية مثل اللون والسطوع ومقدار احتشاد العناصر، لا علاقة لها بقابلية التذكر. تقول بينبريدج "الشيء الوحيد الذي كان مرتبطا فعليًا بالتذكر هو مدى إثارة الاهتمام التي يشعر بها الناس في العمل الفني الواحد" رغم صعوبة التعرف على معنى واضح لكلمة "مثير للاهتمام" إذ يبدو مصطلحًا غامضًا يمكن أن يشير ضمنًا إلى معاني غير محددة بدءً من الفضول وحتى النفور المستتر. وتعتقد بينبريدج أن ما يجده الناس مثيرًا للاهتمام إنما يتعلق بكيفية تفاعل العمل الفني مع ثقافة الشخص المعني. بعض اللوحات التي تذكرها نظام ResMem والمشاركين في الاختبار كانت إما تحمل روح الدعابة أو الابتذال. على سبيل المثال، تظهر إحدى اللوحات التي حصلت على أعلى الدرجات حبتين مستطيلتين من البطاطس تتدليان من خيط بطريقة مثيرة للريبة. تقول بينبريدج "سوف نأخذ بهذه المعطيات حتى لو لم تتمكن الشبكة العصبية من إخبارنا بأسبابها".
من جانب آخر، توصل فوسكو لنتائج متشابهة في عمله في شركة Memorable AI، وهو يسمي هذه الظاهرة ب "الارتباط الواضح بين الغرابة وقابلية التذكر". كذلك خلصت دراسة أجرتها زويا بيلينسكي في شركة Adobe عام 2015 إلى ذات النتيجة. فقد وجدت باستخدامها أساليب مشابهة لتلك التي استخدمها فريق شيكاغو، أن الناس رغم ميلهم لتصنيف المناظر الطبيعية على أنها الأجمل، إلا أنهم لا يجدونها الأكثر تميزًا. تقول: نحن لا نتذكر شيئا ما لأنه جميل، بل بسبب تميزه وغرابته، واختلافه عن كل ما شاهدناه من قبل.
وفي دراسات سابقة لها، وجدت أن الدماغ – وخاصة أجزاء من المسار البصري والفص الصدغي الأوسط – يتفاعل بشكل مختلف مع الصور التي لا تنسى مقارنة بالصور التي يمكن نسيانها، حتى في حالة التوقف عن
التذكر.
وتعتقد أن الدماغ يحسب بسرعة المدخلات البصرية التي يجب منحها الأولوية، والأخرى التي يمكن التخلص منها. لكننا لازلنا نجهل تمامًا ما الذي يفعله الدماغ "أو الشبكة العصبية الاصطناعية بهذا الصدد" لفصل هذه التجارب عن غيرها. يقول نيدل: أن نظام ResMem هو "صندوق أسود بالتأكيد"، فقد حاول في دراسة سابقة له معرفة ما كان يفكر فيه النموذج من خلال توفير صور تعمل على تنشيط كل عنصر فيها إلى أقصى حد. ويضيف: يشبه الأمر محاولتك اكتشاف اللعبة المفضلة لدى حيوانك الأليف من خلال التلويح بكل واحدة منها ورؤية ما يثير اهتمامه أكثر. وكانت النتائج محيرة: دوامات مخدرة من أجزاء أشياء متكسرة وقوس قزح. "واحدة منها ما زالت عالقة في ذهني، إذ قامت بسحب النصف السفلي من وجوه الأشخاص وحولته لنمط جزيئي". ورغم أن الصور "المثيرة للاهتمام" قد تكون أكثر قابلية للتذكر، كما تقول بينبريدج، إلا أن عوامل أخرى كثيرة يمكن أن تؤثر على نسيان أو بقاء العمل الفني في الذاكرة. فالمشاعر السلبية القوية جدًا، مثل الاشمئزاز أو الخوف تبقي التجربة عالقة في الذاكرة. وبخصوص قدرة الذكاء الاصطناعي على التنبؤ بمدى بقاء أنماط وأعمال فنية في الذاكرة وتأثيرها على العملية الإبداعية للفنانين واستغلالها من قبل الشركات لعمل إعلانات جذابة، تقول بيلينسكي: الحل لا يكمن في حجب النتائج العلمية، بل في نشرها
على نطاق واسع كي يعرف الآخرون متى تستخدم ضدهم.