تراجيديا الفكر الحر

ثقافة 2024/06/30
...

  ريسان الخزعلي

{الدم ينطق يا حلاج}، مسرحية تأليف الكاتب والمخرج طارق عبد الواحد، والمؤلف من كتاب المسرح المعروفين في العراق، إذ سبق وأن قدمت له على مسارح بغداد في السبعينيات والثمانينيات مسرحيات عدة، منها: يونس السبعاوي، نائب العريف حسين ارخيّص، هيله والكمر، انهض أيها القرمطي هذا عصرك – المسرحية التي كادت أن تؤدي به، وكذلك {أسعد عبد الرزاق وجمعة اللامي وحسب الله يحيى} إلى مصير مجهول في منتصف السبعينيات لأسباب يعرفها الكثير من المثقفين في حينه. كما كتب مسلسلات إذاعية متنوعة وشارك في برامج ريفيّة في الستينيات مع غازي مجدي.
مسرحية "الدم ينطق يا حلّاج" تقوم على استعادة تراجيدية لاستشهاد الحلّاج برؤية فنية، وتضع هذا الاسترجاع في مواجهة عصرية بالضِد من كل ما يستلب الفكر الحر. والحلّاج الشاعر الصوفي الذي عاش في القرن الرابع الهجري كُتبت عنه مسرحيات، من بينها "مأساة الحلّاج للشاعر صلاح عبد الصّبور" وكانت معالجة عبد الصّبور تقوم على العرض المتداخل بين التاريخي والشعري وباسترجاعات تبدأ من لحظة الاستشهاد وصولاً إلى البداية. وقد أدرك  طارق عبد الواحد طبيعة تلك المعالجة وابتدأ بطريقته الخاصّة في معالجة الاستشهاد.
إنَّ الأسلوب الذي اعتمده يقوم على طريقة سرد تاريخي خاطف على الأعم لكشف حقيقة الصراع بين الفكر الحُر والقوّة، الصدق والإدّعاء، الشجاعة والخوف، ليصل إلى نتيجة مفادها  أنَّ منطق الفكر هو المنطق الذي يُتوّج بالخلود رغم مرارة الخسارات التي تربح الخلود بالتضحيات النبيلة. ومن هنا يكون صوت الحلّاج في ختام المسرحية هو الارتكاز الذي أراد  له أن يشع في هذا العمل المسرحي الإبداعي:
القاضي: أنت لا تستحق إلّا الموت حرقاً.. هذا قرارنا جميعاً.
الحلّاج: "بقوّة وهو يعطيهم ظهره".
 أنتم لستم في الحقيقة قضاة شرع الله بل أشبه بدبّوس ذهبي مسموم في ثوب الخليفة، ورغم ما تتوهّمون بأن مناصبكم وثرواتكم ترفعكم شبراً عن أرض البسطاء.. فهيهات.. هيهات لأنكم في الحق لستم أكثر من ديدان مؤذية في بيادر الفقراء.
ومن هذا الصوت يكون التطابق في مستوى الفعل المسرحي أكثر رسوخا ً وأكثر التصاقاً مع مقدمة المؤلف لمسرحيته "إن المسرحية تُجسّد غربة المفكّر الحر، وتفاؤل الثوري بالتغيير، والحلم بالسعادة، عِبر شخوص حقيقية عاش بعضها مع الحلّاج وبعضها على مقربة منه، وقد ألبسناهم زيّا إنسانيّا ليتحدّثوا للجميع بمنطق حضاري، حلم هذا الزمن: الحرية، العدالة، الديمقراطية".
إن المسرحية تُقدّم عرضها النصّي عِبر فصلين مرتكزيَن على ستة عشر مشهداً، يتداخل فيها الحوار والوصف والمشهد، وبما يجعلها راكضة، شيّقة -كمهر مُدرّب- نحو نهايتها لتضع نهايةَ الحلّاج – نهاية مُشرّفة -  في كتاب.
وقد كان لمدركات المؤلف الثقافية اللمسة الواضحة التي تشحن الحوار بخلفيات فكرية تستمد عناصر جمالها من الوثيقة التاريخية الدامغة، كدخول الشيخ المعتزلي "واصل بن  عطاء" في الحوار قبل نهاية المسرحية، مما منحها انعطافاً جماليا، بعد أن كانت الشخصيات المتكررة تستولي على قلب النص المسرحي، وقد تصاعد الفعل الدرامي فعلاً نحو ذروته بهذه الحركة  التي جعلت الحلّاج وابن عطاء في انسجام رؤية ضمن حدود فهم ويقين المؤلف المعرفي:
القاضي:  يا ابن عطاء، وملحديها؟ ومنهم مَن هو أمامنا في هذه الجلسة ابن منصور الحلّاج.. ما قولك فيه وما تعرفه من خفاياه وأفاعيله؟ ولك الحرية فيما تُريد أن تقوله وتطرحه بدون إكراه أو ضغط .
ابن عطاء: حَسَناً.. الحلّاج إعمقنا أيمانا، وأعلاكم شرفاً وفاقَكم علما وأرجحكم حلما وأكبركم زهدا وأعذبكم كلِما وأعظمكم موقفاً وأشجعكم رجالاً وقضاة.. ولهذا فإنّكم حاسدوه ومحاربوه.
القاضي: بهدوء، أأنت تتكلّم الحقيقة؟
ابن عطاء: الحقيقة!.. الحقيقة ليست حقيقتكم.
إن مسرحية "الدم ينطق ياحلّاج"  كان لها أن تتأصل أكثر فيما لو استحضر المؤلف الكثير من  شعر الحلّاج لأضفى لمسات فنية/ جمالية أخرى، إذ لم نجد من شعره في المسرحية إلّا القليل.
ولو استخدم الشعر في ثنايا الحوار لجعله أكثر حرارة وأوسع توثيقاً، لاسيّما وأن في شعرالحلّاج الشطحات الصوفية الحادّة التي تمنح صوته في المسرحية – فيما لو استخدمت - الوضوح  الأعلى الذي يُعوّض عن نثرية الحوار. كما لابد من الإشارة إلى أن ختام المسرحية لم يكن بالمستوى الذي يُديم الصلة مع العنوان "الدم ينطق"..، فبَقت النهاية فضاء مفتوحا ً لم نتلمس فيه خيطا ً من دماء، وكم كان من المناسب أن يُشير إلى مشهد الصَلب، والدم الناطق الذي كان الحلّاج يُغطّي به وجهه حذراً من أن يراه المتجمهرون وقد اصّفر لونه، كما تروي كتب التاريخ هذه اللقطة ذات المعنى الدّال على المواجهة - بسلاحٍ غير الذي يعرفه ُ القتلة - حينما كان الحلّاج يُردد وهو يُغطي وجهه بالدم: أنا الحق.. أنا الحق.. أنا الحق.