د. آمال نوري عبود الطائي
يتشكل التاريخ الإنساني من ظهور حضارات وأفول أخرى، وتتميز كل حضارة عن سابقتها بمواصفات عدة، تميز ذاتها الخاصة عبر العمليات الحاصلة من تغير وتحول في الاشتغالات النظرية والتطبيقية على حد سواء في تشكيل العلوم والفنون والأدب بأجناسه المتعددة والمختلفة والمغايرة، إن كانت بصورة كلية أو نسبية في المضمون والشكل والفعل والأداء على جميع المستويات.
حيث يشكل الفن واجهة ثقافية لكل حضارة بما يميزها عبر المغايرة في العمليات الفنية والتقنيات التي تستحدث في حضارة ما إذ "ليس في وسعنا أن نفصل الفن عن الحياة الحضارية لكل مجتمع، ما دامت (الحضارة) بمعناها الواسع هي الاصل في نشأة الفنون.. وقد نشأت عن التسليم ببعض الظروف الاجتماعية القائمة بالفعل في مجتمعاتنا الحديثة".
فضلاً عن عمليات التفكير والتخيل وتطبيقها وتجسيدها من قبل شخص الفنان، وهذا ما ميز التاريخ الفني الإنساني منذ الانطلاقة الاولى له، بأنه تأريخ يعتمد ويستند إلى عمليات توليد الرؤى الذهنية عند الإنسان، تستند بالمقام الأول إلى احتياجاته الخاصة، ومن ثم التعبير عما في داخله من أشكال بسيطة، أو معقدة احادية البناء أو مركبة واقعية أو طبيعية تقليدية، أو متعارف عليها أو مستحدثة.
فتأخذ امتدادات جديدة كلياً عبر عمليات الابداع والخلق المغايرة كلياً لما قبلها وبصيغ مختلفة ومتغيرة ومتنوعة. وفي هذه الحالة يأخذ الإنسان طابع التغير والتحول من حال إلى حال عبر المتغيرات التي ترافقه ويرافقها، إن كانت متغيرات داخلية مرتبطة به بشكل مباشر أو خارجية تطور من أسلوب الحياة وتفاصيلها.
ويرى "روزنتال" أن التحول هو "الانتقال من الأدنى إلى الأعلى، ويتم لأن الاتجاه إلى الأعلى متضمن في الأدنى بصورة خفية"، وكنتيجة حتمية تتم عملية الانتقال مستويات وأحداث عدة، وأفعال تغير من الوضع والحال المتعارف عليه إلى حال جديد بشكل عام.
وهذا ما يحدث في الفن مع استحداث الاشتغالات الخاصة في عملية التحول على خصوصية العمليات والمعالجات الفنية والتقنية والفكرية في اطار الاشتغالات الفنية وإنتاج المنجز الفني بصيغ وطرق واليات ورؤى جديدة كلياً أو نسبياً حسب ما تشكله الحاجة وأسلوب الحياة من جهة، وما تفرضه التطورات الحضارية والمدنية من جهة أخرى.
هذه الطبيعة في تشكل المتغيرات تقابلها الطبيعة البشرية من ناحية التفكير والتدبر واختلاف الأساليب والأنماط بالتعامل مع معطيات الحياة، وخاصة ما يرتبط بوجدان الإنسان نفسه وذاته التي تتفرد عن الذوات الإنسانية الأخرى، أدت إلى اختلاف العلاقات التي يتعامل الإنسان معها في مسيرة حياته.
ويرى "مونرو" أن ما يمكن أن يؤثر ويحفز عملية التحول بالفن، هو العلاقة بين الإنسان "والتعبير عن الجمال الذي اتخذ اشكالا متنوعة، أساسها وبعدها الحقيقي العلاقة المنظمة شكليا مع البيئة وما يمتلكه الفنان من وعي وخيال وحدس" يعطيه القدرة على عمل المتغيرات والاشتغالات.
وهذا ما شكل إحدى أهم التقنيات في كيفيات تشكل العلاقة بين الفنان والإنسان وما يحيط به، وكيف يمكنه أن يتغير ويتحول من حال إلى حال في العملية الفنية، بحيث يجبرها على اخراج الشكل الذي يهدف إلى انتاجه ليعبر فيه عما في داخله.. الداخل الذي يستمر بالتحول بفعل المؤثرات الخارجية والداخلية، وبذلك تنعكس العملية بكليتها على نتاجه الفني من ضمن آليات ومتغيرات تأخذ مكانتها في الزمان وامتدادها في التشكلات المنطلقة منها في عملية التأسيس الأولى، وما يتبع هذه العملية من متغيرات وإزاحات موضوعية وشكلية في كيفيات وماهيات البناء ومغادرة الثوابت إلى منطقة متغيرات جمالية تحول العملية من ثباتها إلى تشكلات تعمل على توليد عمليات التحول.