تجليات الانبعاث الإنسي والأنا في بريد الآلهة

ثقافة 2024/06/30
...

  أ.د حمام محمد

ارتبط التجلي منذ عهود بإخراج ما هو مشاع لدى المجتمعات القديمة في شكل ظواهر، وأدوات اثنوغرافية ترتبط بثقافات شعبية للمناطق في الوطن العربي، لكون تلك المناطق تحتوي على خصوصيات مستقلة كما ترتبط بتقاليد معينة، قد نجدها تتشابه، لكن ليس في شكل نسخة نهائية في التشابه، وإنما يكون تقدير النسبية دائما وارد. حين كنت أتابع ما يكتب ميثم الخزرجي من كتابات جمعت عملين له "بريد الإلهة والنزوح نحو الممكن" وطالت مدة حفري لكليهما، باحثا وحافرا، فما وجدته كثيرا، مما يقال ليعرف الناس خيوط مذهب هذا الأديب وخيوط مذاهب أخرى عن الأدب السردي العراقي بعموميته.
اولا: تجلي الرحلة والأسفار
تعدد الأسفار الكثيرة في أعمال الكاتب هي "أسفار داخلية" تخص الغوص في متاهات شخوصه وسفريات داخلية، تخص مجالات الأمكنة المخصصة لفضاء قصصه، رغم أن متوسط العمر الإنساني لا يكاد يحسب إلا في تقدير شخوص ميثم حركة غاشمة مركبة من كم عقدة توضح حسنات المجتمع الذي يريد أن يتحدث عنه، لان فكرة الانتقال من الأمبريقي إلى العولمة فكرة صعبة، تنجر عن تداخل التقاليد والعادات كما تفقد رونقها لدى الضالعين في السرد، كميثم الذي وجدته متمكنا في فك طلاسم الرحلات الداخلية والخارجية، ربما لا يتفق معي الكثير في تشخيص الرحلة الذاتية التي لا تنتهي بمرض ربما ينهيها كحالة قتل البطل او ادخاله في دوامة جنون.

ثانيا: المعالجة الاجتماعية للوقائع
وأنا أتابع الأدب العراقي منذ مدة ولا سيما الكتابة الروائية أو السردية ، كحال "الرجع البعيد" لفؤاد التكرلي والقلعة الخامسة"، والوشم "لعبد الرحمن الربيعي" ، و"مواسم الإسطرلاب " لعلي لفتة سعيد، يسكنني وقار المعالجة الاجتماعية لمواقف الشخوص داخل السياقات السردي، ولعل من بين المجموعات القصصية التي أردت التوقف عندها هي مجموعة بريد الإلهة لميثم الخزرجي.
الواقعة تتحدث بلهجة بسيطة عن" حمال" يحمل القش بالليالي يلتقي في إحدى المرات بصورة جنية مارست معه الفحش, القصة مفعمة بالفاجعة وتدهور قيمة الإنسان الفقير لدى البعض لكونه من السهل إن يتخذه اللسان الجمعي حديثا يزداد عليه دون مراقبة. ونوابغها في لهجة بسيطة تشد القلب إليها قبل اللسان، ذلك أنها متخمة بتجربة إنسانية، وقفت على تفسير شفراتها بالاعتماد عل مقاربة تفصيلية شارك فيها رواد من المدرسة النقدية الانجلوسكسونية:
الجزئية الأولى:  تتعلق بالنقيض والمتناقض ذو البعد الجدلي بين أفاق النقيض ونقده، لن ابدأ من حيث تبدأ العمومية في القياس وإنما أبدا من حيث يأخذني الغور الاجتماعي في كيفية المعالجة، لهاته الواقعة أحبذ أن أغوص في بعض الشكليات التي ارخ لها الشكلانيون الروس، وجعلوها من قيم السرد المحببة عملا اساسيا ويتعلق الأمر
1 -  العنوان : بريد الإلهة ، عنوان فلسفي مؤاخذ عليه عند العموم وعند النخب وفي الفلسفة الواقعية، بأنه محاولة هروب بمتناص غريب من فلسفة طقوس الميتافيزيقيا التي رفضها ديننا وأدبنا الصوفي شكلا وليس مضمونا، ربما يتعقد الأمر لدى الكثير من يسمحون بهذا الهروب نحو متناصفات ميتافيزيقيا على أنها شكل أسطوري، ينبئ أن الإله قد يكون رب عمل، أو صاحب مصنع وليس أن يكون ذلك الإله الواحد الاحد، منزه عند أدباء الأسطورة..
وفي مجتمعاتنا باتت تقرأ السطحي، اذ لا يجب إن لا نأخذ عليها بالسطحيات على زعم أصحاب الحداثة الذين ينظرون إلى المباح أو التعارض النصي مع الواقع، انه "حداثي" ولا يجب الوقوف أمامه ممن يقرؤون بريد الإلهة " ويضنون أن المروي في القصص يسلط النقد، فانا أقول بحس نقدي لا وألف لا وسوف نتبع تلك المدرجات اللامعة والقاصة داخل عملية القص في حد ذاته ..
2 - التفاصيل:  المكتوب في الجبين لا ينزع من اليدين
يستهل القاص مدخله، بالإشارة الفلسفية إلى مكاتبه الله في اليوم لكائنه بقوله" ما إن تعمَّد عمرُ المدينةِ بيومٍ آخر قابلٍ للزوالِ ليُدّخر في خزائنِ الرّبِ، بكلِّ ما اعتزمتهُ نوايا الغارقين في هوس الحياة"، الحياة هوس وتمثيلية مهوشة بلا انتظام عرفي صادر من الآلة البشرية التي لم تحكم عقلها التفكيري على حد ما أشار إليه "هايدخر" في جدلية بداية التفكير أو الاستخدام العقلي منه فكل ما سرى على الكائنات هي أقدارهم بتفاصيل ركب العقل لها من اجل جزئياتها واتخاذ أيسر السبل لها ان كانت بطلب الدعم الرباني.
قصة مرهون.. تحمل النواصي التالية :
- حمال يسوق عربة
- جولة.
-  تشخيص (أحاديث. سجائر، مخاطر التدخين)
- عربة. وهوس الأحاديث..
 - ليلة تفكير مليئة بالتمثيل...معاناة حمل اثقال.
-  مكان بالي..غير مستعمل في ذلك الوقت.. جنية تظهر.. كأنها أدمية..
 - تسالي الرجل .. وفق ما يفكر فيه العامة.. ويملؤنه بالرمز والتخيل والأسطورة.
هي عجائب تدنو من الناس لا يجدون أين يفرغونها، ينتظر مدخلا جذابا بغروس العبقرية أو السحر أو الدجل، وتتصاعد حكايتهم لتقذف بالمتخفي عنه إلى عالم الجن الذين لم يسمع عن تفاصيله إلا رمزا أو اسقاطا لمحددات فكرية أوجدها النسق الاجتماعي في الذاكرة الشعبية التي يقهرها الفقر، فترى الحق باطلا والباطل حقا، ويصعب إثبات براءته من عفن الرمزية أو التعالي أو القذف.
3 -  الجزئيات: سحرتني الجارية وهربت أليا في أسطورة حصان طروادة ، امن الناس "الليل" وامنوا" الخشب الواقف" أما هم في هيئة حصان ولم يلقوا بالا إذا سكن الحصان روحا شريرة ستحركه لما فكروا بالرمز، حتما وعوا أنهم مغتصبون ولكن لما لم يفكروا أصلا ذهبوا للنوم ونسوا أن من يصنع الأسطورة متخفي قد يكون إنسانا أكثر منه حيوان وتحرك الحصان ليلا فتمخض جندا أغرقوا طروادة وخلها واقعة اللمس: كجزء سيكبر بفعل حاجة البعض إلى تكبير حجم الإشاعة خاصة لما تكون الأمور ميسرة لمناقشتها عندئذ سيقول من يشاء ما يشاء فالحادثة حسبه تناولتها كل الألسنة، كانه تدرج لفعل وطني كل الناس يتحدثون.. وما هو بذلك.. لأن في العمر هتك للرجولة.
- ردة فعل الحمال: كبشري "الحمال "يتألم لأنه طعن في رجولته، هذا الطالب الذي تآلف عليه الناس في مجتمعنا العربي، ولا يقبل عكسه كما هو في المجتمعات الغربية، بحث السارد في تبرير رغم صعوبة الموقف مما يدرك انه كان واعيا بالردة الاحتمالية للحمال من اجل الدفاع عن عرضه المسلوب بفعل الإشاعة.. أصبح كثير السخط من المجتمع الناطق والساكت، واستهزائه ولكن من يصدقه وقد ذاع حديث المدينة.
  - رد فعل الزوجة: عندما تتحد الإشاعة الصادرة من مصادر كثيرة للهدف دون شك سيضيء الموقف بما لا يترك مجالا للشك، فالزوجة أدركت أنها فقدت شيئا غاليا خاصة في ظل أنوثتها المتفجرة واللعب هنا كان على أوتار الأنوثة، يبحث عنها المحق الغنوصي، وسهل الأمر في المباح أنها كانت تلاعب الغجر.. يقول السارد "زوجته مرزوقة البنت التي قارب مجيئُها لظهور حفلات الغجر في المدينة والذين أرسوا أحداثاً ملؤها المرح واللهو في حينها."

الجزئية الثانية: طوق النجاة
كأي إنسان اشتدت علته، يطرق كل الأبواب من أجل الشفاء ولكنه في حالة الجمال لا طبيب إلا دجال أو عرّاف أو مسخّر الجن، فحياته الآن أصبحت منقوصة من "الطاقة والقدرة " فالجنية في العرف الاجتماعي سلبته قبل العقل قدرته الفوارة، هذه القوة كسرتها شبشبة الزوجة الباحثة عن مبرر لدخول الخطيئة ولو بالسكات، كان يعتصر جسمها في كومة لباس أبيض، ربما كان يمم الرجل أثناء قوته، لم يعد يعرف إن الزوجة المكتنزة لم يعد لها مكان، فحلبة الصراع توسعت وأماط الطماعون من المرضى لثامهم ليوهموا الأنثى بكلمات الإطراء، هكذا هي نهاية الرجولة وبداية الشيطنة عن المرأة عندما تمسي مؤمنة بأن الرجل فقد فاسه ولم بعد قادرا على غرس النبات .

الجزئية الثالثة: فضحية بمعايرات صامتة
أعطى السارد وضعية مبررة اقتصاديا عندما انتشر الفقر والرضا بأدنى الأعمال المدرة، كانت مرزوقة ضمن أفراد النسق الذي جاهر بالفاحشة ليلا، من أجل ان لا ينتشر فحشها، ولما ضنت انها شوهدت من قبل "سعد" أبن أختها بحثت في الدروب المعقدة فما وجدت سببا ظاهريا، أن لصا كان بالجوار، كل هذه التبريرات لا جدوى منها أما خلط الخيانة بما لا يجب عليها كان يمكن أن تمارس أي شيء للوقوف مع زوجها في مجتمعات أخرى يلجئن الى الساحرات أو الدجالات للوقوف على إيجاد حل ولو سحري، والجزئية هذه على الرغم من غناها الاقتصادي إلا أنها ناورت بتسهيل المعابر لمرزوقة لكي تمتهن بعض هذا البغاء في حالة الهوان وهذا لا يصح مطلقا كحقيقة ...

-الجزئية الرابعة: كحالة أي إنسان قرب أجله ، فموت الحمال كان إيذانا بإعلان توبة الزوجة بالبكاء، والألم والحسرة.. في هذه الجزئية أسلم السارد نهاية تشبه دائرة الاتصال "مرسل يكلم الناس برسالة مفهومة " فالسارق والسارقة عاقبها الله، بإعلان الناس كشهود عليهما ولكن حينما يكون سارق الدار من وسط الدار، يصعب حراسته وإبعاده عن الهدف .فثمة قيم لا يمكن هتكها من أجل سرقة، أظن أن مسار النهاية عند ميثم كان إشاري إلى ما يجري في الواقع العراقي ، ويعانيه يوميا..
وتلك أزمات وفّق السارد في طرحها نزلت مفهومة بأسلوبه الشبه أكاديمي في عملية السرد، كأنه يشبه اللسانيات الجنائية التي تتابع أطوار الجريمة من مرحلته الأولى إلى الأخيرة بمعرفة المديات المؤثرة في تكونها وحيازاتها عبر كل مراحل .
أخذ القاص بنسب متفاوتة مما يدل على أن السارد يستعمل السردية العراقية في مرحلتها المتطورة التي تشبه القص الانثربولوجي وحسبتني أبحث عن منهجية نقدية تأويلية حتى اهتديت في أخر جزئية أن ميثم سارد محنك بالتجربة ..وسأواصل غور أسلوبه باحثا عن مسالك أخرى.