ياسين طه حافظ
انا لا ادري تماماً لماذا زادت الاسئلة الحاحاً، وكثُرَت توقفاتي عند نوع الحياة التي نعيش ومدى تقبل الحياة لنا ومدى تقبلنا نحن لما في الحياة.
في كل حال الأيام تمشي قطارات بحمولاتها المتنوعة والتي لا أحد يستطيع التحكم تماماً بأنواع ما تحمله وتسير. نحن في كل حال بعض ركابها، وبعض من حمولتها التي قد تكون جيدة أو غير جيدة، نافعة مريحة أو رديئة غير صالحة.
والمشكل ليست أنا اخطأنا وأننا لم نحقق الاستقامة أو الصلاح، المسألة الابعد والأصعب هي أننا لا نعرف ما هو الاصلح، ما هو الجيد أو في لغة الفلاسفة ما هو الخير، وهنا لا نكون في موضع لذم، بل نحن في موقع نشدان الرحمة والتسامح.
القيم غير محددة دائماً ولا ثابتة مستقرة في حال. ونحن غير قادرين دائماً على احترام قيمة ما بسبب جذبنا الشديد من قيمة مناهضة أو مختلفة عن هذه. نحن لسنا أجساماً طافية نحن أحياء تحكمنا في العيش والبقاء مصالح والمصالح تتطلب سلوكاً يلائمها أو يتفق معها أو يستجيب. ثم لسنا بلا أهداف وغايات. قل بتبسيط وتجسيد لنا رغبات. وهذه الأهداف والرغبات مثلما هي داخل نفوسنا هي خارجنا، خارج اجسادنا حضورها المادي. يتسع اشكالنا الإنساني إذ تتسع الرغبات وتتنوع، مادي بعضها وبعضها يخصنا غير مادي. كأن ارغب في انتصار مبادئ حزب أو دين، أو افضل وأريد غلبة فريقٍ أرغب في ناسه أو في فوزه. أو أرغب في انجاز عمل ما أو الوصول إلى منصب أو مكانة. هذه كلها تمر خلال رغبات اخرين وأهدافهم مرتبطة بتفكيرهم أو بنوازعهم.
من العوارض التي تقطع طريق الاسترسال في رسم الرغبات وتحقيقها، إنك تلغي أو تضطر لتلغي مسوّغات الاخرين للوصول لأهدافهم أيضاً. أنت تريد ما أنتويت له وأردت. لكن ماذا نفعل بنوايا وإرادات الآخرين؟
هنا صارت الحاجة إلى علم النفس وإلى الدين وإلى الانظمة والأخلاق العامة. ومن تجاربنا الشخصية ومن عموم أمثلة التاريخ نعرف أن تلكم "القوى" التي قد يستعان بها لإيجاد حل، لم تمنح الناس حلاً. بل ظلَّ أكبر مثال للإزاحة، هو اخضاع الغير، ارغامه أو تنحيته، وحتى ضمن صيغ تبدو ضمن العرف والقانون ولم تجمعها الأنظمة. المزارع أو العامل يبدي كل الخضوع والطاعة لمشيئة صاحب العمل ولا حضور ساعتها لأي من رغباته الخاصة وأهدافه أمام السيد والرئيس. والمرأة الطيعة، الذلول هي التي تحافظ على وجودها وألا فستخسر استقرارها المنزلي، وآلاف العبيد ضمن وتحت هذا الحكم. حكم الغاء رغباتهم لتتقدم رغبة الأعلى إلى هدفها.
المشكلة الفردية التي كانت موضوعاً للكتابات الأدبيـــــة صارت مشكلة اجتماعية. قطباها رغبة الاقوى أو الاغنى أو المترئس التي يجب أن تحقق هدفها بالوصول، ورغبات اولاء التي يجب أن تتوارى وإلا عوملت كمعوّقات أو قوى تعارض. فهي أمام حالين أما أن تنحسر وتختفي وأما أن يخسر اصحابها عملهم واستمرارية عيشهم إن لم يكن الطرد أو القتل. إذاً صار الخضوع حلاً! لا يمكن لرغباتهم المناوئة ولا يمكن لبعض لهم أن يأتلفوا وما لهم غير ما لسواهم. إذاً اتسع الموضوع من مجاله الادبي والأخلاقي إلى أن يكون اشكالاً اجتماعياً له تنظيماته ومن هذه التنظيمات، السياسية والاجتماعية بكل ما فيها من ثقافية ومذهبية وعنصرية. وما هو ضمن النطاق الفردي اتسع الآن ليتحول إلى خلاف جمعي وإلى تحول أكبر، إلى حالَيْ الخير والشر.
شخصياً لا أرى الكتابات الأدبية تخرج عن هذا الإشكال, فلا رواية، لا قصة ولا قصيدة، إلا وتتحدث عن الرغبة وطلب تحقيقها، والرغبة للآخر، او "للخارج" والرغبة في تحقيقها. نحن إذاً ننقل صراعات الذات لا مع اهوائها حسب, بل مع متضاداتها الخارجية. وما هو صعب وإشكالي معقد، أن تكون الرغبة المضادة أو المختلفة أو المتقاطعة، إنسانية أيضاً.
في الأدب نوع من مداواة الذات الجريحة جرحاً لا يشفيه علاج وأحيانا لا يطاله النسيان. ثمة احالة إذاً لما يسببه التضاد من اضرار بدنية ونفسية وإيذاء للذاكرة يعمّر سنين.
الأدب إذاً في أخص وأهم منطقة للإنسان. هو مع الإنسانية في بدايات، في نشوء الايذاء والوجع الإنساني. هو يعمل في منطقة كسر ذوات البشر وسحق الرغبات أو منعها. وما نقرأه من حوار الشخصيات، وعموم موضوع العمل، هو هذا، هو تعرض الذات الإنسانية للكسر أو للمحق. وحيثُ يتجسد واضحاً العذاب الإنساني وما يتعرض له الفرد وفكره وعواطفه من كسر أو استباحة أو ما يمكن أن نسميه هيمنة أو الغاء. أما ارتقاء لغة الأدب وأساليب وتقنيات الكتابة، فهذه مما أوجدته ضرورات التعبير عن مشكلة واسعة ومعقدة ولا تنتهي.
والأجناس الأدبية كلها بدأت بكتابة النصوص وكلها ما استطاعت تكمل التعبير عن صعوبة الرضا الكامل بالحياة، عن رغباتنا فيها والتي لا تتحقق إلا بكسر أو الغاء رغبات كثيرة لآخرين.. وحين نقول الأدب يحمل رسالة خير، فلانه يؤهل الأحداث والأمزجة لتفادي النتائج الخطأ أو لحل إشكال ما. وما ينجم عن هذا الإشكال والرياضة- بنوعيها العلمي والبدني- وكل المهارات الأخرى أوجدتها جميعاً محاولات ومساعٍ لحلول بإشكالات. والمشكلة البشرية الأخلاقية الاجتماعية كما الفكرية، التي نحن بصددها هي واحدة كبرى من المشكلات التي يحاول الأدب فيها إيجاد حل. كل عمل أدبي، وكل فن هو محاولة لحل إشكال!