باقر صاحب
يتناول مقالنا دوافع انتحار أفراد جيش الاحتلال، ضباطاً وجنوداً، في حربه ضد غزّة، وهي ظاهرة توارد الحديث عنها، في مقالات الرأي.
طبعاً، ظاهرة انتحار العسكر عامةً، لها جذورٌ تاريخية، فبعد انتهاء المعارك، حين يُمنى جيشٌ ما بالهزيمة، يسارع بعض قادته أو جنوده إلى الانتحار، كيلا يلاقوا أنواع الذل عندما يقعون في قبضة الجيش المنتصر، أو تُلصق بهم وصمة العار. بكونهم هُزموا، أو فشلوا في تحقيق النصر.
وهذا ما حصل في حروبٍ كبرى، على سبيل المثال، ما حدث في نهاية الحرب العالمية الثانية، التي انتهت بهزيمة ألمانيا، فانتحر القائد النازي هتلر ووزير دعايته غوبلز، كي لا يقعا في قبضة قوات الحلفاء.
وإذا كان انتحار المهزومين، يُعدُّ منطقياً بعض الشيء، للأسباب الواردة أعلاه، فإن انتحار المنتصرين يثير التساؤلات، وهناك أيضاً أمثلة على ذلك، ما حدث من حالات انتحار في صفوف الجيش الأميركي، بعد حربه في العراق، حيث سُجّلت عشرات حالات الانتحار لجنوده، الأمر الذي عُدّ مشكلةً معقّدةً تواجه وزارة الدفاع الأميركية» البنتاغون».
جوهر حديثنا هنا، يتمثّل في الحرب الصهيونية ضد غزة، إذ تشير التقارير الواردة عن أفراد جيش الاحتلال، بأنه نتيجة استمرار الحرب، وغياب جدولٍ زمنيٍّ لإنهاء القتال، وضعا جنود العدو تحت وطأة الإصابة بأمراضٍ نفسيّةٍ كثيرة، منها الكآبة والوساوس والميول الانتحارية، واضطراب ما بعد الصدمة، وهي أمراضٌ مزمنةٌ علاجها ليس ميسوراً في فترة قصيرة.
وبالأرقام ذكر إعلام العدو، بحسب تقارير إخباريةٍ في مواقع عربيةٍ الكترونية، بأنّ أكثر من 10 آلاف جندي احتياط طلبوا تلقّي خدمات الصحة العقلية.
وفي شهر شباط الماضي، قرّر الجيش المحتل تشكيل فرقٍ من أطبّاء نفسيّين وممرّضين قادرين على التعامل مع الميول الانتحارية، بعدما كشفت هذه الصحف بأنّ 10 ضباط وجنود صهاينة انتحروا منذ بداية الحرب، كما ذُكر بأنّ الجيش يتستّر على مقتل 17 جندياً، يُعتقد أنهم انتحروا، وقد تبيّن أنّه منذ عام 1973 انتحر 1227 جندياً.
لكن الجيش يتكتّم على حقيقة الأرقام، ويدّعي أنه لا توجد لديه معلوماتٌ كافية.
لكنّ إعلامهم يؤكد بأنّ «عدد الجنود المنتحرين أكثر بكثير»، ويرى اختصاصيون في الطب النفسي، أنّ مردّ تلك الحالات يعود إلى عدم وضوح أهداف الحرب، فضلاً عن عدم الشعور بالأمان، ما يؤثّر على الحالات النفسية للجنود الخائضين للقتال، ويجعلهم يفقدون السيطرة والتركيز، فتزداد الخسائر في صفوفهم.
أمّا الأحياء منهم، فيبقون عرضةً لحالات الاكتئاب والهلوسات والوسواس القهري، والميل إلى الانتحار.
ويؤكد استشاريون بالطب النفسي بأنّ «الحروب تزيد من معدل الاكتئاب، خاصة في النزاعات غير واضحة الرؤية، كما تزداد حالات الانتحار للهروب من الواقع الصعب والضغوط الراهنة خاصة مع طول أمد الحرب، وعدم وجود خطّةٍ لما بعد القتال»، وهو ما يتّضح في حرب غزّة، فجنود العدو، لا يؤمن الكثيرون منهم إيماناً حقيقياً بالقتال لعدم وضوح أهداف الحرب لديهم، فضلاً عن هذه الحرب الحالية قد طالت أكثر مما يجب، وأنّ العدو تورّط في المستنقع الفلسطيني.
ويُقال أن المشكلات النفسيّة الكبرى ستظهر بعد وقف
الحرب.
وهنا لابدّ من التوقّف إزاء هذه النقطة الأخيرة، إذ من المُتعارف عليه أن حالات الانتحار تحدث غالباً بعد انتهاء المعارك، إلاّ أنّه في حرب غزّة تحدث راهناً مع استمرار القتال.
وإذا كان هناك أربعة ضباط صهاينة انتحروا في الأسابيع الأولى من الحرب، لعدم تحمّلهم مشاهد القتل والتدمير وروائح الأجساد المحروقة، لنا أن نتخيّل كم عدد العسكريين المنتحرين مع دخول الحرب شهرها التاسع، لكنَّ العدو يتكتّم عليهم.
وبوسع القارئ الذي يطّلع على المقالات والتقارير التي تناولت ظاهرة انتحار ضباط وجنود العدو التوصل إلى أنّ عدد المنتحرين ليس بالعدد القليل، وأنّ حكومة العدو وجيشه يتكتّمان على ذلك، كيلا يؤثّر ذلك في معنويات الجيش عامةً.
إحدى مآثر هجوم المقاومة الفلسطينية في السابع من تشرين الأول من العام الماضي، إنّه كان هجوماً مفاجئاً صعق حكومة العدو وجيشه، فكان الأثر النفسي على أفراد جيش العدو، لأنه بحسب استشاري الطب النفسي جمال فرويز، الذي يعمل على حساب منظمة الأمم المتحدة، في مناطق النزاع، التأهيل النفسي أمرٌ ضروريٌّ قبل بداية الحروب، لجهة رفع الروح المعنوية، وتوفير الاحتياجات الأساسية للمقاتلين، وزيادة الشعور بالأمان في أثناء أداء المهمات الحربية، فضلاً عن تعزيز العقيدة العسكرية التي يحاربون من أجلها.
الهجوم التشريني، الذي يذكّرنا بحرب السادس من تشرين عام 1973، هجومٌ مباغتٌ أسقط من العدو ورقة الاستعدادات النفسية خاصةٌ، مع العدو الصهيوني.
ورفع المعنويات لأفراده، وبالتالي يشكّل تاريخ المباغتة الأخيرة علامةً فارقةً في النزاع التاريخي للعرب عامةً، والفلسطينيين خاصة مع العدو الفلسطيني.