نَرد بوجهتين

ثقافة 2024/07/02
...

 كاظم جماسي

 كل يوم وطوال سنوات ضنك الحصار، في رواحه وعودته متبضعاً من السوق، يتوقف عند الكشك الذي أتخذته سكنا وعملا لبيع لعب الأطفال المستعملة، يشتري عددا من اللعب، وقبل أن يدفع ثمنها، يسألني ذات السؤال في كل مرة: كم سعر قنينة العرق اليوم؟ وحين أخبره، ينقدني ضعف ثمن ما اشتراه، ويمضي مقهقها مرددا: عش يومك.. عش يومك.
 ذات ليلة، أباحت لي ونحن على السرير، نجية الأرملة التي تقوم على خدمته ساعات محددة من النهار، وتزورني ساعة في جوف الليل، أن الشيخ قضى في الأسر ما يزيد على الثلاثة عشر عاما، وانقطعت، أبان السنوات الأولى من أسره، أخباره عن ذويه، حتى حسبوه "شهيدا"، ولما عاد فوجئ مصعوقا بزواج أخيه من زوجته، وقد فكت مع الأخير عقدتها المستعصية في الإنجاب، وصار لها، مع زوجها الجديد، نصف دزينة من صبايا وصبيان. حين تيقن صاحبنا مما حدث، فضل أن يظل" شهيدا" في اعتقاد ذويه، فغادرمن فوره وإلى الأبد مدينته الجنوبية ولجأ إلى مدينتنا، مرتزقا من مهنة العرافة والسحر.
 كنت قد شرعت بفتح دكاني ـ مسكني ضحى هذا اليوم، ولم أكد أكمل توظيب بضاعتي أمام الدكان، حتى قدمت نجية راكضة، لافتة أنظار من في السوق جميعا، سيما الذكور، فقد كان ثوبها الملتصق على جسدها الفاره الممتلئ يفضح مكوراتها وثمارها المشتهاة، استغربت: خير.. ما الذي جاء بك؟
ـ حال الشيخ جد سيئة، يريد حضورك
أجابت لاهثة.
هرعنا معا إليه، ولما وصلناه وجدناه مسجى على سريره، أشار لنجية أن تخرج، لنبقى منفردين معا في الغرفة، غاب بعدها في اغفاءة.. جلت بناظري فرأيت، حائطا مثقلا برفوف لعب الأطفال بمحاذاة السرير، وكانت  نجية قد أخبرتني حين سألتها مرة لمن يشتري الشيخ كل هذه اللعب؟ قالت: يقسمها حصتين حصة يحتفظ بها لنفسه، والأخرى يهبها لأبني. ولم يك حمودي ابنها قد بلغ عامه الأول، حين توقفت سيارة "الكروان"، قبل ثلاث سنوات، أمام باب دارهما حاملة نعش أبيه المكفن بالعلم الوطني.
حيطان الغرفة الأخر كانت مكسوة  جميعها  بقماش ساتان أخضر لامع، وفي المنتصف من أرضية الغرفة، مبخرة متوسطة وعليها أحجار فحم متوهج، لم تزل تفح دخان بخور عابق الرائحة، فيما نافذتها الصغيرة، بزجاجها المطلي بالأخضر أيضا، مقفلة تماما، ما جعل جو الغرفة معتما ثقيلا خانقا، سارعت إلى فتح النافذة، لعل ثمة أوكسجين وبعض حزم ضوء نهارية ينعشان جسد الشيخ الراقد.. سألته إن كان علي نقله إلى المشفى، رفض بنحو قاطع.
تحسست جبهته فكانت ملتهبة، طلبت من نجية جلب طاسة ماء بارد ومنشفة، ورحت أبلل وجهه أكمله، بعد دقائق فتح حدقتيه حد سعتيهما متسائلا: أين أنا؟ تحرى ببصره الاتجاهات جميعها، وانتهى ناظرا وجهي، هز رأسه برضا ثم أمسك بيديه كفي كلتيهما وراح يبحر في عيني، بعينيه المضمحلتين المزروعتين أسفل جبهته المخددة بالتجاعيد، تصدران ومضا غريبا، يهم بكلام يتحشرج في بلعومه، يريد أن يخرج ولا يخرج.. جسده الذاوي يرتجف بشدة، على الرغم من ثقل البطانية التي يلتحفها في عز حر آب.
ـ لعبة.. سمجة.. لعبة سمجة ..
انتبهت إلى صوته آتيا من غور عميق، وثمة إشراقة نطقت فوق سحنة وجهه وحبات عرق تلألئت على جبينه، فيما شاربه ولحيته الكثان، راحا يرتعشان بوضوح.
-  خذ.. المفتاح.. المعلق .. على صدري.  قال بصوت خافت. أزحت قليلا طرف البطانية عن أعلى هيكل أضلاع قفصه الصدري، وخلصت بحذر وبطء الخيط الذي يحمل المفتاح من رقبته البالغة النحافة، وأعدت دثاره، لدقائق غشيته غيبوبة  ..
وأنا، برما، انتظر منه أمرا آخر، فز يقظا يسألني:- هل أنت متزوج؟.. أجبته بلا.
- إياك.. إياك.. ستجني على نفسك وعلى آخرين.. قال ثم أضاف:
الصندوق كله لك.. وأشار إلى ما خلف  رأسه.
لم أكن قد أنتبهت لوجوده من قبل، صندوقا خشبيا كبيرا كان، يحتل الزاوية لصق السرير، صندوق عتيق، بدا لي خشبه من الزان مطليا كله بطلاء أسود مائل إلى الحمرة كما القار، ترصعه، متناغمة، رؤوس مسامير فضية  .
عصفت به، بعدها، قشعريرة حادة، وراحت مسامات جلده تنث عرقا غزيرا ثم لم يلبث حتى مد يمناه المرتعشة فأمسك بيدي، رفعها إلى فمه، وحاول أن يبقيها ساكنة على شفاهه، تمتم ببضع كلمات لم أفهم منها شيئا، وبادلني نظرات طفحت بحنو وتوسل لا يوصفان، ثم لم يلبث حتى سكن تماما. لما أيقنت أنه مات، سحبت يدي من فوق  فمه، ساهما أخذت انظر إلى قسمات وجهه وقد أرتسمت بوضوح إبتسامة سخرية مرة عليها، فيما جبهته، وقد عادت كما جبهة طفل غرير، رائقة صافية نقية  تبث نورا غريبا.
فكرت بعدها ماذا علي أن أفعل الآن؟ فورا توجهت  إلى الصندوق، صر عاويا حين  فتحته، رأيت كتابا بحجم سجل كبير، ذو غلاف من الجلد منقوش بزخرف بديع مبهر، خط في أعلاه" كتاب الجفر".. وإلى جواره عدد آخر من الكتب وعدد من المحابر وقصبات خط، في جهة أخرى علبة معدنية عريضة مغلقة بغطاء زهري، رفعت الغطاء فوجدتها ممتلئة بأصناف من فصوص الأحجار والمسابح والخواتم، بينما تحتل قاع الصندوق، معظمه، حقيبة سفر كبيرة، سحبت زنجيلها فبدت مختنقة برزم مال كثير.. بالكاد أخرجت الحقيبة ودحست علبة المسابح والخواتم في عبي، ثم ألقيت نظرة أخيرة في جوف الصندوق، ولما لم يكن هناك ما أنا بحاجة إليه أنزلت الغطاء وأعدت القفل محله.
وأنا في طريقي خارجا، قذفت بمفتاح الصندوق حيث جثمان الشيخ.
كانت نجية، وسط الحوش في انتظاري، واقفة متخشبة  مبهوتة، قبالتها وقفت، فتحت الحقيبة بصمت، منحتها عددا من رزم المال، ومفاتيح دكاني، وكما لو كانت منومة، ظلت تبحلق بوجهي، بلسان معقود بالدهشة، تركتها وغادرت.
لم يكن غير إيقاع متصاعد مموسق يصدح في دخيلتي، تتمايل على وقع انغامه انحاء جسدي جميعها، وأنا أرتقي سلم الطائرة: عش يومك.. عش يومك ..