أشواق النعيمي
من اللافت للانتباه في رواية "بنات غائب طعمة فرمان" لخضير فليح الزيدي اعتمادها تكوينات صورية ساخرة تسهم في صياغة المعنى، وتحويل العلامات والرموز اللغوية إلى تشكيلات فكرية وجمالية تؤسس بنية المتن ومضمونه، وترتبط تلك الصور بمرجعيات موضوعية وثقافية ومكانية ومثيرات حسية تتناسب وطبيعة اللغة والمفردات المستخدمة.
تستجلب الصورة المقتطعة من مشهد العزاء الحضور الجسدي لغائب طعمة فرمان من الموت إلى مدخل الحدث التخيلي في فصله الأول المعنون "من تراب": "قيل أيضاً أنه دخل مجلس العزاء المقام على روحه بجسده وروحه معاً، وكان يجر حقيبة عرجاء ومرتدياً بذلة سوداء وما أنفك يبكي نفسه وقد صدق المشهد بفعل الجو العام". العزاء الذي حضره وجهاء وكبار الموظفين والأدباء، وشهد عودة أبطال رواياته السابقة إلى الحياة، هو صورة غرائبية ساخرة تثير دهشة القارئ وشهيته لتتبع الأحداث، وضربة استهلالية موفقة أجاد المؤلف تشكيلها جامعاً بين الفنتازيا والتاريخ.
تتشكل آليات البناء الساخر في الرواية بتوظيف العبارات المتضمنة أمثالاً شعبية متداولة اجتماعياً بوصفها تهكماً متعالياً، يستند إلى القوة المستمدة من الانتماء المكاني، والأساليب البلاغية كألفاظ تشبيهية ترمز إلى التصغير والتحقير وانعدام التأثير في المجتمع، وتحول الأساليب الساخرة من الواقع الاجتماعي والسياسي إلى وسيلة للتعايش السلمي مع العنف والموت المجاني في الشوارع، "لاذ بجماعة بيتنا ونلعب بي للغوية في الميدان، جماعة الرصيف عموماً مستثنون من الموت بالسلاح، فلا أحد يفكر في اغتيال أي منهم، لاسيما بعد الهدنة بين الذبابيين والبعوضيين" .
وتعزيزاً للحبكة الساخرة، أسند الدور البطولي إلى شخصية هزلية "هاني بارت" الذي يتميز بأبعاد جسدية غير متناسقة، أنف طويل تكمل النظارة المقعرة الصورة الكوميدية لشخصية مهزوزة متمردة على محيطها. التصقت ببارت ألقاب عديدة منها "ذبانة الميدان، صرصر المجاعة" من باب الذم والتقليل من شأن أفكاره الفلسفية وطروحاته اللغوية المناقضة لحالته المعيشية البائسة"، ومثل كثير غيره جعله الفقر عدمياً يائساً من الحياة، لكنه لا يكف عن السخرية من كل شيء حتى نفسه.
في فصل "رياح نشطة مصحوبة بزوابع نفسية" وتزامناً مع عنوان الفصل تتمثل صورة وصفية لأجواء بغداد، تفند وتسخر من الصور غير الواقعية لأجوائها في روايات التجريب للحقبة التسعينية، صور تسعى لدغدغة مشاعر المغتربين، وإضفاء الرومانسية على الأجواء المحلية بما يتناسب مع نوع المنظور السردي، ينزاح الوصف التقريري للطقس إلى معنى يصور مشاعر غائب الحقيقية كمغترب عائد إلى أرض الوطن "لا نفحات لهواء بارد تضرب وجوه المسافرين، ولا قهقهات تعبر عن أمزجة المغتربين الواصلين في تلك اللحظات، مثلما أشيع سابقاً في روايات التجريب وقصص الجيل الضائع من تسعينيات القرن المنصرم". لم يخرج فرمان بطل الرواية عن أطر الصور الساخرة، فقد كان سلوكه أقرب إلى الفعل الهزلي، وهو يسحب حقيبته العرجاء بلا مبالاة، ويعاني من امتلاء المثانة الشديد أثناء محاورة يواجه فيها أسئلة ضابط الجوازات التحقيقية في المطار، ما يخلق صورة درامية كوميدية في ذهن القارئ.
كما مثلت السخرية مقابلاً كلامياً للتعبير عن ما يصعب قوله، مثل "خراب ألمانيا" اللازمة التي يرددها غائب كلما حاصرته الضغوط وعجز عن الرد المباشر. تحيل العبارة إلى أزمة ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية في معناها الظاهر، وتختزل معاناة غائب الوجودية حسب تعبير السارد وانهيار جدار مقاومته النفسية في المعنى الرمزي. من أساليب السخرية في النص منح شخصيات روايات غائب وجوداً سردياً قلقًا بين الواقع والخيال، تحاور كاتبها بأسلوب الاستفهام والأمر تقول سليمة إحدى شخصيات رواية النخلة والجيران "عليك العودة إلى بغداد لتصلح ما أفسدته"، يبادل غائب شخصياته الاتهام بالخذلان في حوار مع سليمة "حتى أنت ياسليمة، لم أتوقع منك كل هذا الجحود؟" تستغل تلك الشخصيات غياب المؤلف لتأخذ دوره في التحكم بزمام السرد حين قررت انهاء حياته لتغيير مصائرها.
محاكاة بطل الرواية هاني بارت للناقد الفرنسي رولان بارت في اسمه وفكره وأسلوبه واحدة من أعمق الصور الساخرة في الرواية. يشطح هاني في خياله محدثاً دلال البيرقدار عن زيارة بارت لبغداد، وجلوسه في مقهى الزهاوي، والتحدث بصراحة عن شعر الزهاوي مهاجماً لغته، ومثنياً على أفكاره بأسلوب ساخر "هاجم لغة محمد جميل الزهاوي الخرقاء في شعره لكنه أثنى كثيراً على مواقفه الفكرية المتعلقة بالتبغدد والسفور وحرية المرأة والتبشير بالفكرة القردية لتفسير تطور إنسان الكينونة البغدادية" ويسخر هاني بدوره من الحروب العبثية لمعشر الكتاب والمثقفين ومن كثرتهم بلا حكمة، مميزاً ذاته عنهم بوصفها بالعبقرية ولا تخلو تلك الأوصاف من السخرية من لا جدواها في ظل الواقع المأزوم "أيعقل أن يموت المبدع من أمثالي وهو يأمل أن يُحتفى به بعد موته ".