عماد جبار
لن أنسى وقوفها على جانب الطريق والباص الذي كان يحملنا تاركاً معسكر اللاجئين، وهي ترفع يدها بصعوبة وتبكي. تساءلت في نفسي لمَ تبكي هذه المرأة لوداع الغرباء؟ كانت الباصات تأخذنا إلى المكان الذي سنعيش فيه بعد أربعين يوماً من الإقامة في هذا المركز.
كنا عائلات وأفراداً عازبين في الباص ذاهبين إلى المطار متلهفين إلى رؤية بيت نستقر فيه بعد سنين من التشرد.
كانت تعمل في مركز اللاجئين، امرأة ممتلئة في نهاية الأربعين. وفي الأيام الأخيرة لنا، ناداني الشخص المسؤول عن ترحيلنا من المركز إلى المطار وطلب مني أن أريه حقائبي، فصعق من عددها وحجمها. كانت أكثر من سبع حقائب، ضمنها واحدة لا يقدر أضخم الرجال على حملها، مملوءة كلها كتباً. كنت قد عشت عامين في عمّان أذهب كل يومين أو ثلاثة إلى أحد محال بيع الكتب في وسط البلد لاشتري منه عناوين جديدة، ثم أضعها بجانب وسادتي في الليل لأبقى أشم رائحتها. تجاوزت الكتب 500 كتاب في نهاية اقامتي في عمان، وحين ذهبت إلى المطار اقترح الشخص المسؤول عنا أن أعطي كل واحد من الأصدقاء الذاهبين معي إلى نيوزلندا حقيبة واحدة. نجحت الخطة وانتهى الأمر.
عندما سألني الموظف الذي كان مسؤولاً عن ترحلينا إلى مأوانا الأخير أريته الحقائب فصعق وسألني كيف استطعت جلب كل هذا العدد من الحقائب فأخبرته بالخطة. قال لي إنه ليس هناك إمكانية لذهاب الحقائب معي وأن علي أن أشحنها بنفسي وأدفع ثمن ذلك. كانت تلك المرأة واقفة معنا فقالت بسرعة: أنا سآخذها له. المدينة التي من المؤمل أن أذهب إليها "ويلنغتون" تبعد أكثر من عشر ساعات بالسيارة عن مركز اللاجئين ذاك.
انتظرت أسبوعين بعد وصولي، وفي مرة اتصلت بي، وقالت إنها في المدينة ومعها الكتب. استقبلتها في شقتي وكان معي باسم فرات. جلست قليلاً وشربت الشاي ثم غادرت.
بعد 17 عاما رأيتها وأنا في عملي في المكتبة المركزية تمشي سريعاً لكي تترك المكتبة. ناديتها وأوقفتها، قلت لها أتذكرينني، فحدقت محاولة التذكر فلم تستطع. قلت لها أنت كنت تعملين في معسكر اللاجئين وأنا جئت هناك عام 2002، هل تتذكرين حقائب الكتب التي جلبتها إلى ويلنغتون؟ فتذكرت. سألتها هل مازلت تعملين في المركز، فقالت إنها تركته عام 2012 عندما تولى الصليب الأحمر إدارة المركز وأعتبرني من الفائضين عن العمل، فأضطررت للبحث عن عمل آخر، مع أني بكيت عندما تركت المركز.
أنا أعمل الآن في وظيفتين لكني أحن إلى ذلك المكان وأبكي. لا أدري ما الذي يربطها بالمكان، لكني أفكر الآن أن في قلبها فائضاً من الحب والرأفة لا يستوعبه سوى هذا المكان، مركز اللاجئين، حيث يترك الناس أوطانهم. إن فيها بقايا من رحمة المسيح التي ورثتها بعض القلوب مصادفة. هي الآن تعمل في شركة لإقامة الحفلات ومركز لتعليم الأطفال السباحة، تقول إنها تستمتع في عملها.
لكني عندما ذكرتها بالباص الذي كان يحملنا ووقوفها على جانب الطريق ملوحة لنا بالوداع وباكية، احمرت عيناها مرة أخرى ومسحتهما، ومسحت عيني أنا أيضا.