الأحجار الكريمة.. الأحجار الكريمة..

ثقافة 2024/07/03
...






أحمد شمس




مع أنَّ التختم والتزين بالأحجار الكريمة ارتبط في الوعي العام بصورة الرجل المتدين التقليدي تارة وبالرجل الريفي أو القروي تارة أخرى. لكنَّ التعامل مع الأحجار الكريمة لم يكن يوماً من الدين الرسمي (النص المقدس) ولا علاقة مباشرة لها به، إنه مرتبط بالدين الشعبي- حسب تعبير ماكس فيبر- وهذا مع إدراك أنَّ الدين الشعبي تتقاسمه التقاليد الاجتماعية والمعتقدات الشعبية المحلية والتاريخ والإيكولوجيا وغيرها.

إنَّ هذه الزينة الطبيعية سبقت الأديان الرسمية المعروفة جميعها ربما بآلاف السنين أو أكثر وتعاملت معها مجتمعات وثنية وعلمانية كثيرة ربما أكثر من المجتمعات الدينية. فالأحجار والمعادن قد اتخذها الإنسان زينة له منذ عصوره السحيقة، ولا تزال النساء في أكثر المجتمعات تقدماً وتحضراً وعلمانية تتزين بالأحجار وبالمعادن كالذهب والفضة واللؤلؤ والماس والياقوت وغيرها وتزدهر تجارتها في جميع البلدان المتقدمة والمتأخرة.

كما أنَّ أشهر من تعامل مع الأحجار الكريمة ومعادن الأرض وكنوزها هو الملك نمرود، وهو نفسه الذي تشير النصوص المقدسة إلى محاربته النبي إبراهيم ومحاولة حرقه بالنار. 

وكذلك قبائل كثيرة في شتى أصقاع الأرض مثل الهنود الحمر وكفار قريش والقبائل الإفريقية وغيرها من عبدة الطبيعة أو غير المؤمنين بالأديان التي نعرفها، كانوا يتزينون بالأحجار والمعادن والمنحوتات الصغيرة وأسنان وعظام الحيوانات وليس من المنطقي ربط هذا المظهر بالدين مع أنَّ للدين الشعبي ارتباطاً به، وهنا محل التساؤل: كيف تسلل هذا التصور؟

في معرض الجواب يجب استحضار أنَّ القبائل القديمة قد استعملت هذه الزينة ليس لوظيفة الزينة فحسب إنما لوظيفة أخرى سحرية للتأثير في الطبيعة وفي الآخرين حسب معتقداتهم فالناس يعتقدون بقوى خفية يختزنها الحجر ولكل حجر قوى مهيأة لوظائف معينة تختلف عن قوى الأنواع الأخرى منه. وتنقل الروايات التاريخية عن بعض الأنبياء وأئمة الدين أنهم كانوا يتزينون بها. وظهرت بعض الأحاديث المنقولة شفوياً عنهم باستحسان نابع من روح التدين لممارسات كهذه، ولكنها تبقى مرويات شفاهية متناقلة عبر العصور لا يمكن الجزم بسلامة محتواها من التعديل والتبديل والتغيير والافتراء وسوء النقل فضلاً عن الشك بصحة ورودها أصلاً، فمقتضى الدين يستوجب تنزيه الأنبياء عن أي استعانة بغير الله وأنهم حاربوا الاستعانة بالحجر، فإن صحَّ تزينهم بالحجر فمقتضى ذلك أنهم استعملوه لوظيفة الزينة فقط، لكن في ذلك كلام ونقاش إذا تحدثنا في الفيزياء عن صدق وجود الطاقة في بعض أنواع المعادن، فيكون ذلك استعمالاً للطاقة إذا صحّت هذه النظريات.

فلا يمكن أن ننكر بطريقة تعسفية ما يشاع عن بعض أنواع الحجر والحديث المتداول بين الناس عن أنواع من الطاقة الفعالة والمؤثرة التي تختزنها الأحجار. فالمعادن ومكونات التربة وبعض العناصر الطبيعية يدرك الفيزيائيون آثارها الفيزيائية كالإشعاع وتشتيت الضوء والتفاعل مع مكونات الطبيعة الأخرى وغير ذلك، فوجود الطاقة بحد ذاته أمر مسلَّمٌ به علمياً، لكنَّ التساؤلات تدور حول تصنيفات تلك الطاقات إن كانت بالفعل مؤثرة بهذا الشكل الذي يُروَّج له؟! فصُنِّفت حسب احتياجات الإنسان كالرزق وجلب الحبيب ودفع الشر والحسد وطرد العيون وعقد اللسان ومنع الرصاص والخدمات الجنسية وغير ذلك مما يحتاج إليه الإنسان فيحاول إيجاد الوسائل التي تحققها.

لنلقِ نظرة تاريخية تسلسل لنا كيف بدأ الإنسان يتعامل مع الأحجار والمعادن.

لقد لجأ الإنسان إلى الحجر منذ عصور قديمة، فبعضهم استعان به على ما هو عليه لقدح النار أو التقلد به أو الضرب به وبعضهم الآخر نحته على شكل صنم أو تمثال وصار يطلب من هذه الأحجار احتياجاته كالصحة والرزق وجلب الحبيب وجذب النساء وغير ذلك مما أشرنا إليه آنفاً. ثم صارت تؤدى بعض الطقوس لاستدعاء واستخدام القوى (الطاقة) الكامنة في هذه الأحجار، وهذه الطاقة يسميها المشتغلون في هذا المجال (الخادم) في إشارة إلى نوع من الجنّ يؤدي وظائف خاصة لخدمة حامل الحجر.

هذه الطقوس مسرحية تعبدية، فحملت الأحجار وخصوصاً المنحوتة منها كالأصنام والتماثيل درجة رمزية كبيرة لدى أفراد تلك المجتمعات فحظيت بقدسية من نوع خاص حتى تمت ترقيتها في بعض المجتمعات إلى مرتبة الآلهة ونراها في مجتمعات أخرى كانت تؤمن بالإله الأكبر أبي الآلهة كما في الأساطير العراقية القديمة (السومرية أنموذجاً) وآلهة فرعية أخرى قام بتجسيدها رمزياً أي إنهم لم يقروا أنَّ هذه التماثيل هي الآلهة أنفسها إنما هي مجسمات رمزية للإله الكبير ومعاونيه.

وكذلك نجد الأمر نفسه في مجتمع قريش الذي كان يؤمن بالإله الواحد (الله) لكنه عبد التماثيل لأغراض التقرب إلى الله، أي جعلها صوراً رمزية لله تعالى وفي الإشارة لهذا الأمر ورد في القرآن قوله: ((ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إنَّ الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إنَّ الله لا يهدي من هو كاذب كفار))، فهم يعترفون بالله لكنهم يتقربون إليه بوساطة المنحوتات الحجرية كاللات والعزى وهبل ومناة وغيرها.

نعود إلى منظور فيزيائي سيكولوجي وأقدّم له بقول ينسب إلى النبي محمد (ص) يقول: (من آمن بحجر كفاه) مع صرف النظر عمّا إذا كان النبي قد قاله فعلاً أم لا فهو يحمل تفسيراً سيكولوجياً للتعامل مع الطبيعة، يكثر الحديث بين علماء النفس أنَّ الإنسان يبني علاقات متينة وقوية إلى حد كبير جداً مع الطبيعة وما حوله من مفرداتها وما يمتلك منها فيتعلق بالحيوانات وبالأرض وبالنبات وبأشيائه الخاصة، فالحالة النفسية التي يعيشها الإنسان كفيلة بأن تغير مجريات حياته بشكل مذهل يصل إلى التغيير الجذري، فالحالة النفسية تنعكس مباشرة على وضعه الصحي وعلى سلوكه اليومي وكذلك على قراراته ومواقفه من أي شيء حوله وبالتالي تدفعه إلى القيام بأنشطة معينة والامتناع عن أخرى. وهذا مما لا شك فيه من المنظور النفسي، لكنه محط تساؤل في بُعده الفيزيائي طالما نتحدث عن علاقة تأثيرية بين الإنسان والطبيعة أو بعبارة أدق طالما يدعي أحدهم أنَّ الطبيعة تؤثر في الإنسان وهو ما أثبتنا أنَّ الفيزياويين لا ينكرون ذلك ومثاله تأثير أشعة الشمس في حياة الإنسان وجسده تأثيراً مباشراً وسبق أن ناقش الأستاذ الدكتور علي الوردي في كتابه (خوارق اللاشعور) مسألة الطاقة وتأثيراتها في الإنسان والطبيعة، لكنَّ التساؤلات عن تلك العلاقات الصغيرة التي تصنف الأحجار لوظائف لم يكشف عنها العلم كوظائف الأحجار الكريمة، نسمع آلاف القصص والحكايات عن تأثير بعض الأحجار، لكننا لم نلمس بشكل واضح أياً منها، أو في الأقل لم يقدم الفحص المختبري أي تفسيرات أو إقرارات إلى الآن؛ لذلك هي تبقى ادعاءات حتى تثبت مختبرياً.

مع تطور الحياة الاجتماعية حافظ الحجر الملون وذو الخصائص الفيزيائية الفريدة والمميزة على قيمته كزينة مثلت جانباً مهماً في التبادلات الاقتصادية والأسواق العالمية وفي عالم الموضة والجمال، إذ لم تكن وظيفته مقتصرة على التعبد فحسب كما يشاع، ولم تكن تلك هي وظيفته فهو ما لم يثبته تاريخ الزينة ولا تاريخ الوثنية، فالأنثروبولوجيون اعتقدوا أنَّ الأمر بدأ مع عبادة الأرواح وتطور في زمن متأخر إلى عبادة الحجر، لكن التزين بدأ مع لباس الإنسان ومع إحساسه بكينونته الذاتية وعلاقة مظهره الخارجي بكيانه وبعد اكتشاف الأدوات، وأعتقد أنَّ الذي دفع لعبادة الحجر هو تلك الخصائص الفيزيائية المذهلة التي تتمتع بها الأحجار والصخور التي جعلت الإنسان يعتقد أنها تختزن قوى غيبية خارقة.

ثمة أمر آخر لا يجب أن نغفله، وهو أنَّ الإنسان لم يكتفِ بتصنيف القوى الخارقة حسب تصنيف الحجر إنما قام بتقسيم الحجر على نوعين وإن كان ينسب إلى النوعين كليهما بعض القوى الخارقة لكنه يفصل بشكل قاطع بينهما، وكما يأتي:

الأول: الحجر الذي تصنع منه الأصنام، وهو حجر اعتيادي لا شروط له فالأصنام صُنِعت من الخشب والطعام أيضاً وغير ذلك.

الثاني: الحجر الذي يتزين به، وهو حجر يجب أن يتمتع بأشكال خاصة وأحجام خاصة وسطوح ملساء ناعمة وبدرجات متفاوتة من الشفافية ونقوش خاصة.

إنَّ الطبيعة التي على أساسها تتكون أحجار الزينة (طبيعة المادة وطبيعة التشكل) هي التي أضفت على الأحجار طابعاً جمالياً أذهل ملتقطيه وأثار في نفوسهم الدهشة والفضول لمحاولة إيجاد بعض التفسيرات لهذه الأشكال الغريبة والصفات الفريدة، معتقداً أنها قد تقدم له بعض التفسيرات لأسئلته الكبرى مع خدمات يحتاجها قد تلبيها له، ولأنَّ الإنسان رمزي بطبيعته فقد مارس نوعاً من التأويل، وخصوصاً تأويل الرسومات التي تشكلت في الحجر أثناء تكوينه وكذلك أوَّلَ بعض خصائصها الفيزيائية وعدَّها رموزاً لما هو غير مادي، الأمر يشبه إلى حدٍ بعيد الطريقة التقليدية لتفسير الأحلام وقراءة الفنجان وقراءة الكف وغيرها من الممارسات التأويلية. ولكل ذلك صار هذا النوع من أجزاء الطبيعة يدعى (الأحجار الكريمة) فهو يعتقد بكرامتها وبوجوب إكرامها والتعامل معها تعاملاً حيوياً، أي أن يعاملها معاملة الكائن الحي شديد الحساسية، يتمتع بقدسية من نوع ما بالنظر لمجهوليته والأساطير والخرافات حوله التي نسجها المستفيدون من تجارته وتداوله بالإضافة إلى المستخدمين المحليين.

لكنَّ كلَّ ذلك لم يمنع أن يبقى الحجر الكريم محافظاً على واحدة من أهم وظائفه التقليدية القديمة وهي الزينة. وهذه هي الخلاصة، إنَّ للحجر صلةً بالثقافة بشكل عام وله وظائف كثيرة ما زالت حيّةً في العالم منها الزينة كما أنَّ منها التبرك بما يعتقد أنه سر وضعه الله فيها أو أنَّ فيها سحراً أو جاناً أو طاقة فيزيائية، فكل صنف من المستخدمين يفهم الحجر وينظر إليه من زاوية خاصة.