الموت الطويل لجمهوريَّة روما

ثقافة 2024/07/03
...




ترجمة: مي اسماعيل




شوشما مايلي

غالباً ما يُنظر إلى مقتل “يوليوس قيصر” على أنه الحدث الذي بشَّر بعصر الأباطرة؛ لكن جمهورية روما كانت قد ابتُلِيت بالضعف الهيكلي قبل وفاته بوقت طويل. 

قليل من الأحداث التي وقعت على مدى التاريخ الروماني الطويل كانت جريئة أو صادمة مثل مقتل يوليوس قيصر؛ ففي منتصف شهر مارس (آذار) عام 44 ق. م.، وفي مساحة مسرح بومبي المقدس؛ انتهت حياة الرجل الذي هيمن تماماً على المشهد السياسي لروما خلال العقود الوسطى من القرن الأول قبل الميلاد، وسط موجة من خناجر القتلة.. وكانت تداعيات ذلك الحدث هائلة على روما وامبراطوريتها المتسعة. افتتن المؤرخون بهذا الاغتيال منذ ذلك الحين؛ ليس فقط لجُرأته، بل لما كان يعنيه لمستقبل روما.


حينما هاجم “ماركوس جونيوس بروتس” ورفاقه المتآمرين قيصر في وسط شهر مارس؛ كانت روما حينها تُدار بنظام حكم يسمى “الجمهورية” لما يقرب من خمسة قرون. وفي غضون 15 عاماً من وفاة قيصر، تحولت تلك الجمهورية (بسبب موجة عارمة من الاتهامات المتبادلة والحروب الأهلية) ليحل محلها عصر الأباطرة. ولهذا السبب بالذات جرى النظر إلى موت يوليوس قيصر على أنه تحول حاسم في تاريخ روما؛ حينما انتهت حقبة وبدأت أخرى هيمن عليها رجال مثل “أغسطس” و”نيرون” و”هادريان”. ولكن من الخطأ أن نعزو سقوط الجمهورية إلى الاضطرابات التي أعقبت أحداث منتصف أيار فحسب؛ إذ كانت الجمهورية كنظام حكومة تحت ضغط هيكلي كبير من مجموعة قوى بدأت بالفعل تتجاذب نسيج النظام قبل وقت طويل من صعود قيصر.. 

“شيء عام”

لكي نفهم الجذور الطويلة لموت الجمهورية؛ لعل مما يجدر توضيحه كيان تلك الجمهورية.. جاء اسم الجمهورية من المصطلح اللاتيني “res publica”، والذي يُترجم إلى “شيء عام”؛ وهذا يدل على أن أعمال الدولة كانت ملكية عامة. كانت الجمهورية نظام حكم مبني على فكرة الدستور المُختلط؛ وهو الدستور الذي يحمي من ظهور الاستبداد من خلال ضمان ألا تقع السلطة في يد شخص واحد وحده. وكان التطبيق العملي لذلك يعني أن يجري انتخاب أعلى القضاة (وهم  القناصل) سنوياً، ويشغل هذا المنصب رجلان في نفس الوقت. ولكي يصلوا إلى منصب القنصلية كان على الرومان عادة تسلق “سلم مراتب الشرف- “cursus Honoru؛ والتي تبدأ بدور القسطور (= موظف روماني) أو “منبر العوام”، وتتقدم عبر مناصب “aedile” (وتعني- مراقب أو محاسب. المترجمة) ثم “praetor” أي- القاضي (تحت مرتبة القنصلية. المترجمة) وصولاً لمرتبة القنصل. 

عززت فكرة المنافسة بين النخبة، حيث يتنافس “أفضل الرجال” (الأرستقراطيين) على الوظائف العليا كل عام؛ نجاح الجمهورية في أذهان بعض المؤرخين الرومان. لكن القناصل كانوا مجرد جانبٍ واحد من المعادلة في حكومة الجمهورية؛ فحين يعمل الدستور المختلط بشكلٍ صحيح تصبح السلطة متوازنة بطريقة تعني أن القضاة ومجلس الشيوخ والشعب كان لهم رأي في حكم روما. وكان للقناصل (بصفتهم كبار القضاة) حق القيادة العسكرية وسلطة استدعاء مجلس الشيوخ والشعب. وكان مجلس الشيوخ (المؤلف من كبار رجال روما) يقترح القوانين ويناقشها. وكانت المجالس الشعبية؛ وهي العنصر الديمقراطي المُؤلَّف من المواطنين الرومان (من الرجال فقط) تنتخب القضاة وتوافق على القوانين أو ترفضها، وتتخذ القرار بشأن قضايا مثل إعلان الحرب. وكان الهدف من أي جزء من ذلك النظام هو إقامة التوازن مع الأجزاء الأخرى. أو على الأقل- كانت تلك هي النظرية؛ لكن الواقع كان أكثر وضاعة بكثير.. فمنذ البدء جرى تقويض الضوابط والتوازنات التي كان من المفترض أن يوفرها الدستور المختلط؛ بسبب الغياب المزمن للمساءلة. هذه كانت الحالة بالذات بالنسبة لعنصر الديمقراطية.. فعلى سبيل المثال كان هناك مجلس “مئوية الانتخاب-comitia centuriata “؛ وفيه يجري تقسيم المواطنين الرومان الرجال إلى مجاميع تضم الواحدة منها مئة رجل، تُسمى “المئويات– centuries”. ولكن لم يكن جميع المواطنين هنا متساوين؛ إذ احتلت القلة الأكثر ثراءً من المجتمع نحو 98 من نحو 193 مئوية؛ بينما كان على الجزء الأكثر فقراً واكتظاظا من المجتمع الاكتفاء بخمسة فقط.. إنه لم يكن بالنظام الذي اعتمد مبدأ: صوت واحد للرجل الواحد..  

مصدر عظمة روما

كان لتفضيل النظام السياسي للقلة الثرية تبعات عميقة على مجتمع الرومان؛ ليس أقلها حقيقة أنه فتح النظام أمام الفساد. ووفقاً لـــ “شيشرون-Cicero” (كاتب وباحث ورجل دولة، القرن الأول ق. م.)؛ فقد عملت الجمهورية بشكل جيد عندما كان المسؤولون فيها يعملون للصالح العام. ولكن التاريخ الطويل لتدابير مكافحة الفساد في روما  يُظهِر أن السياسيين غالباً ما كانوا يستخدمون المناصب العامة لتحقيق مكاسب خاصة. ومن العوامل الأخرى التي شكلت تحدياً لجمهورية روما- حقيقة أنها كانت في حالة تدفق وتحوّل شبه مستمر فتتغيّر، وتواجهها مجموعة من التحديات والفرص والتهديدات المتحورة باستمرار. في القرن الثاني ق. م.، وصف المؤرخ “بوليبيوس-Polybius” الدستور المختلط بأنه مصدر عظمة روما الإمبراطورية. إلا أن ذلك الدستور لم يكن قد ظهر بشكله المتكامل عام 509 ق. م.؛ وهو العام الذي جرى فيه طرد آخر ملوك روما. كما أن ذلك الدستور لم يبق في حالة جمودٍ أبداً طيلة العقود الخمسة التي مثّلت تاريخه. كان “مجلس العوام- the concilium plebis” أحد جمعيات التصويت الرئيسية، ولم يتم إنشاؤه حتى عام 471 ق.م تقريباً؛ بعدما رفض العوام المشاركة في الخدمة العسكرية حتى يحصلوا على التمثيل السياسي الفعّال. كما كان هناك حظر على الزواج بين الأرستقراطيين والعامة حتى صدور قانون “كانوليا-lex Canuleia “ عام 445 ق. م.، ولم يصبح من الإلزامي أن يكون أحد القُنصلَين من العامة حتى عام 342 ق. م.

 كذلك حدث تحوّل في ((آليات)) تداول السلطة داخل الجمهورية منتصف القرن الثاني ق. م.، حين حاول شقيقان هما “تايبيريوس” و”غايوس غراكوس” شغل منصب قيادة العامة لفترة أطول من عام. نال الشقيقان تأييداً شعبياً بعد وعدهم بتوزيع السلطة بصورة أكثر عدالة في المجتمع الروماني. ودفعوا باتجاه اصلاح الأراضي وسعوا لسنِّ قوانين لمكافحة الفساد القضائي والابتزاز. ولكن اتضح فيما بعد أنهما  تجاوزا حدود مسيرتهما؛ إذ أثارت محاولة تايبيريوس الفوز بإعادة انتخابه لعام 133 ق.م. أعمال شغب تسببت بوفاته، وواجه غايوس مصيراً مماثلاً لأخيه بعد عقد من الزمن. لكن تحركهما دق إسفيناً بين موقع القنصل وبين الأعضاء الأرستقراطيين الآخرين. 

“فجوة الثروة”

كان التوسع السريع للإمبراطورية من بين العوامل التي دفعت تحركات الشقيقين، وتأثير ذلك التوسع على زعزعة استقرار روما بوصفها مركز الإمبراطورية. وكانت كيفية دمج الأشخاص الجدد مع باقي المواطنين من القضايا البارزة التي واجهت صناع القرار في روما. دأبت روما (منذ أولى حِقب الجمهورية) على توسيع أراضيها في أرجاء إيطاليا، ولم تُمنح حقوق المُواطنة إلى الكثير ممن أخضعهم الرومان لسلطتهم؛ ولكن في الوقت نفسه كان متوقعاً من هؤلاء أن يُقاتلوا إلى جانب الرومان بصفة قوات حليفة “socii”. وهذه الازدواجية أغضبتهم جداً حتى أنهم خاضوا (في الثمانينيات ق. م.) حرباً مع الرومان. نتج عن “الحرب الاجتماعية” كما تُدعى منح معظم الإيطاليين حق التصويت؛ لكن ذلك لم يكن بالحل السريع لعلاج مشكلات روما الهيكلية؛ إذ خلق توسع الإمبراطورية تفاوتات واسعة النطاق، سمحت لبعض المواطنين بأن يصبحوا أثرياء بشكل غير عادي؛ خاصة ذوي الوظائف العسكرية واسعة النطاق. 

أدى ظهور طبقة جديدة من الجنرالات فاحشي الثراء إلى زيادة “فجوة الثروة” بين الأغنياء والأكثر فقراً في المجتمع، كما خلق فوارق بين أفراد نخبة روما.. جمع رجال مثل “قيصر” وبومبي”؛ (وهما من أنجح الجنرالات في منتصف القرن الأول ق. م.) ثروات هائلة؛ وهذا لم يُمكنهما من شراء الدعم السياسي عن طريق الرشوة فحسب؛ بل سمح لهما أيضاً باستخدام مشاريع البناء الرائعة والألعاب ((الرياضية)) المبهرة لكسب استحسان الناس.

لم يكن تحوّل النظام السياسي ولا توسع الإمبراطورية كافيين لوحدهما لإسقاط جمهورية روما؛ لكن اجتماع العامِلَين معاً يبدو وكأنه أشعل النار تحت روما! شهدت روما أفراداً أقوياء قبل ظهور بومبي وقيصر؛ إذ حقق “سكيبيو الأفريقي-Scipio Africanus” قوةً شخصية مُعتبرة بعد هزيمته لهانيبال عام 202 ق. م.، وكذلك الحال بالنسبة لـــ”سكيبيو إيميليانوس-Scipio Aemilianus “ بعد تدميره لمدينة قرطاجة عام 146 ق. م. وكان الفارق أن انتصارات بومبي وقيصر جاءت في لحظة من التاريخ إزداد فيها ثراء مجموعة مختارة من العسكريين بسبب عائدات غزواتهم، كما ارتفع عدد الأشخاص الذين شعروا أنهم مستبعدون من المشهد الإمبراطوري لروما.

“الدكتاتور”

بحلول منتصف القرن الأول ق. م. باتت مثل تلك التوترات تكشف عن نفسها في موجات متتالية من العنف السياسي؛ أدت لمقتل بعض الخصوم السياسيين في مواجهات بينهم وإحداث الضرر بالممتلكات العامة. انقسم السياسيون عموما إلى فئتين: “ optimates” وهو مصطلح باللاتينية يعني: “الأفضل” أو “الأرستقراطيون” (عن موسوعة بريتانيكا. المترجمة)، وكان يمثلهم أعضاء بمجلس الشيوخ مثل: “شيشرون” و”بومبي”. وهم يؤمنون بممارسة السياسة من خلال مجلس الشيوخ. والفئة الثانية: “populares” (ويعني- الشعبويون أو”الديماغوجيون”- بريتانيكا. المترجمة)، يتقدمها “قيصر”، وهم يأخذون سياساتهم مباشرة إلى الناس. وصل التوتر بين بومبي وقيصر عام 49 ق. م. نقطة الانفجار وتحول إلى حرب أهلية كاملة؛ إذ عبر قيصر نهر الروبيكون وزحف نحو روما. جرى تصوير هذا الصِدام على أنه نتاج لطموح أشخاص منفردين؛ ولكن عدم الاستقرار الذي طبع العقود السابقة يشير إلى أنه كان أيضاً نتيجة للتحولات السياسية والاجتماعية في إمبراطورية روما الآخذة بالاتساع. بعدما حقق قيصر انتصاراً ساحقاً على بومبي (48 ق. م.) ضغط السياسيون الداعمون له على النظام بشكل أكبر؛ ومنحوه لقب “ديكتاتور إلى الأبد”؛ وهو منصب له موقع دستوري وجذوره كسلطة طوارئ، وقد جرى استخدامه في الجمهورية الرومانية للتعامل مع حالات الخطر الشديد (مثل هجوم العدو). لكن قيصر استخدم منصبه لفصل سلطته عن سلطة القناصل الآخرين؛ وكان تصرفه المُطلق ذاك (كما يرى مؤرخ القرن الثاني ميلادي “كاسيوس ديو”)  القشة التي حسمت الموقف بالنسبة لأعداء قيصر، فجرى اغتياله بعد شهرين. 

على خطى قيصر

ربما توخى المتآمرون العودة إلى الجمهورية؛ لكنها لم تكن بالضرورة الجمهورية التي جسدت مبادئ الدستور المختلط بضوابطه وتوازناته السليمة. كان قيصر أول من وضع صورته على العملة المعدنية أثناء حياته؛ وهذا يعتبر تجاوزاً من جانبه؛ لأنه كان شرفاً خاصاً بالآلهة والأجداد الموقرين. وبعد اغتياله فعل “بروتوس” (الرجل الذي ساهم باغتيال قيصر) الشيء ذاته؛ حينما سكَّ عملة الاغتيال؛ التي تحمل صورة الخنجر على وجهها الأول وصورة نصفية لبروتس على الثاني. وكان سيره على خطى قيصر مؤشراً على كيفية تغيُّر المواقف تجاه تمثيلات القوة الفردية؛ إذ  يبدو أن هناك مساحة في الجمهورية كما تصورها بروتوس لذلك التعبير الجديد عن الوضع الأرستقراطي. لم يتسنَ لبروتوس الحفاظ على تلك الجمهورية بنسختها الجديدة؛ إذ تغلّب “أوكتافيون- Octavian” (ابن قيصر بالتبني) على قتلته بعدما شكل حكومة ثلاثية مع “مارك أنتوني” (قنصل مشارك لقيصر عام 44 ق.م.) و”ماركوس اميليوس ليبيدوس”، منحتهم صلاحيات استثنائية لسن القوانين وإلغائها، وتعيين القضاة وإمرة الجيوش وملاحقة المتآمرين؛ الذين سقطوا تحت السيف.. قضى أوكتافيون على شركاء حكومته وتفرّد بالسلطة؛ فمنحه مجلس الشيوخ لقب “الأكثر احتراماً: أغسطس”، ليكون أول أباطرة روما..   

لكن الواقع أن جمهورية روما لم تكن واحدة بل سلسلة من الجمهوريات؛ إذ استلزمت الأوضاع السياسية المتغيرة إعادة التصور المستمر للعلاقة بين الأفراد والأرستقراطيين والدولة الرومانية الأوسع. وأخذت إعادة تصور أغسطس لذلك التطور “الجمهورية” خطوة أخرى إلى الأمام؛ وكانت النتيجة بدء العهد الروماني الإمبراطوري.. 


عن مجلة “هستوري”