من هو الوحش في الفيلم الياباني Monster ؟

ثقافة 2024/07/03
...

 



وداد سلوم


أفلام كثيرة في السينما العالمية والعربية حملت عنوان الوحش، وتنوعت في تشويقنا مع الدلالة الحادة لهذا العنوان. 

 لكننا سنتناول اليوم الفيلم الياباني Monster)) 2023 للمخرج الياباني هيروكازو كورنيداو، الذي تميز  بتقديم أعمال تعتني بالعائلة وعلى الأخص الطفولة وعلاقتها بعالم الكبار والمحيط المحكوم بقوانينهم، وأمراضه الاجتماعية التي يمارسها على الأطفال، الصنف الضعيف أمام جبروت المجتمع وأحكامه الممسكة باليوميات، والتي تعمل على فرض رؤية المستقبل وفقها، وفي هذا الإطار كان فيلمه نشالو المتاجر الحائز على سعفة كان الذهبية لعام 2018، ثم فيلمه الوحش (Monster) الحائز على جائزة أفضل سيناريو في مهرجان كان 2023،



ويروي الفيلم قصة الطفل ميناتو البالغ من العمر 11 عاماً (قام بالدور كوروكاوا سويا)  الذي يعيش مع والدته  بعد وفاة الأب، ومن الواضح أنها توليه جل اهتمامها، لكنه يفاجئها بأسئلته الغريبة وهما يتأملان حريقاً حدث في الجهة المقابلة من المدينة، وكان الحريق يحدث في داخل الطفل أيضاً، حين يسألها: ماذا لو استبدل دماغ الإنسان بدماغ خنزير، هل سيصبح الإنسان خنزيراً ؟ وأتبع ذلك بمجموعة من الملاحظات التي تنبئ الأم بوجود مشكلة نفسية عند ابنها، وتبدأ بالتقصي حولها حين يستخدم وصف الوحش أكثر من مرة ثم عودته بفردة حذاء واحدة، أو جرح أذنه وغيرها من الملاحظات، وليتخلص من إلحاح الوالدة يعلق الطفل كل ما يقلق والدته على مشجب أستاذ الفصل واتهامه بممارسة العنف الجسدي والسخرية منه ونعته بالوحش.

 الحقائق دائماً نسبية وملخص أخطائنا أننا لا نرى الأشياء إلا بمنظار واحد، المنظار الذي يوافق جهتنا، لهذا يقوم كاتب السيناريو ساكاموتو والمخرج هيروكازو بلعبة فنية متقنة ومهمة، إذ يقدمان الفيلم عبر ثلاثة مستويات من السرد.

 المستوى الأول من وجهة نظر الأم (تقوم بدورها أندو ساكورا)  التي تندفع إلى المدرسة لتبليغ الإدارة بسلوك المعلم وما يمارسه بحق ابنها، لكنها تفاجأ بردة فعلهم التي لا تتعدى الاعتذار ونعت ذلك بالسلوك الخاطئ، وحين تتكرر أزمات ولدها لدرجة أنه يرمي بنفسه من سيارتها حين تلحق به إلى الغابة وتعيده معها، فيكرر الكادر التدريسي الاعتذار بمن فيهم الأستاذ الذي يبدو مكرهاً وغير جاد في ذلك، مما يثير حنق الأم وريبتها. خلال ذلك تكتشف الأم أن المديرة التي تقوم بتنظيف الممر وكشط الأوساخ التي يتركها الطلاب على البلاط بصبر وصمت تعاني من أزمة نفسية نتيجة فقدانها لحفيدتها، إذ قام الجد بدهسها بالسيارة من دون أن ينتبه. ولأن تصرف المديرة لا يقنعها تواجهها بأزمتها وترمي صورة الحفيدة عن الطاولة، لكن المديرة تمتص كل هذا الغضب بصمت وبطريقة محيرة للأم . 

أما المستوى الثاني من السرد فمن وجهة نظر الأستاذ هوري (ايتا ناجاياما) الذي يتبرم من قسوة زملائه والمديرة في إجباره على الاعتذار من دون أن يتم تحقيق واضح وصريح بالأمر، وتخبره المديرة أنه بذلك سيحمي المدرسة وإدارتها وزملاءه. والحقيقة أنه يتم التضحية بأستاذ حتى لا تفقد المدرسة مكانتها ويتم التحقيق بما يجري.

يكتشف الأستاذ أنه سيدفع الثمن بما يجري من تحايل على القانون بداعي المصلحة العامة وإنقاذاً للمدرسة والكادر التدريسي من التوبيخ والإجراءات القانونية، من دون النظر لمصلحة الطلاب والمستوى التدريسي، وهو نفس السلوك المتبع على صعيد القضاء أيضاً، فالتحايل على القانون سلوك اجتماعي معترف به من تحت الطاولة وبشتى السبل، مبرراً بالحفاظ على البنيان الاجتماعي القائم من دون النظر للفرد بشكل خاص، فمثلا نكتشف أن المديرة هي التي دهست حفيدتها وتم تحميل الجد الجريمة حتى لا تفقد وظيفتها  أو يتأثر مستقبلها المهني.  

 يعيش المعلم اجتماعياً علاقة حب بسعادة، ومهنياً يبدو دائم الابتسام، يتقرب لطلابه بالحديث معهم عن طفولته ومراهقته  ويشاركهم بطريقة إيجابية مشاعره والاهتمام بهم، وتقوده الصدف إلى أماكن تواجد الطفل ميناتو ويقوم بتغطية تصرفاته الهوجاء وإشاعة الفوضى  في الفصل، وفي علاقته مع الطفل يوري ( هيناتا هيراجي)، محاولاً استيعاب ميناتو وامتصاص حالاته النفسية.

 إلى ـن تجبره الإدارة من دون تحقيق على الاعتذار عن تصرفات لم يرتكبها أمام الأم ثم مجلس أولياء الأمور، فتبدأ الصحف بتناوله شخصياً وتناول سيرته المهنية . يدرك الأستاذ أنه يدفع الثمن ليتم الاحتفاظ بالمكاسب والسمعة الزائفة بالتحايل على القانون من دون أدنى اعتبار لمصلحة الطلاب أو أخلاقيات المهنة، فيبدأ بحثه عن الحقيقة بدافع ذاتي خالص لإنقاذ الطفل. 

أما المستوى الثالث من السرد فهو وجهة نظر الطفلين ميناتو وصديقه يوري، إذ نمت بينهما علاقة من الصعب توصيفها مع التلميح إلى المثلية، فيوري الذي يتنمر عليه رفاقه في الصف، يعيش مع والده ويتلقى معاملة قاسية ومتوحشة من الأب الذي ينعته بدماغ الخنزير، وأن هناك من زرع في رأسه دماغ خنزير، ويقوم بضربه ثم يحاول التخلص منه بإرساله إلى جده في مدينة أخرى، وهذا ما يسبب الحزن لميناتو رغم أنه لا يكشف عن التقارب بينهما لكي لا يتعرض له الرفاق في الصف، إلى أن يقررا ترك كل شيء والبقاء معاً في مقطورة مهجورة مرمية في الغابة وسط الإعصار. 

في نهاية الفيلم نجد الطفلين وقد خرجا من الغابة ضاحكين إلى عالم تغمره الشمس، يركضان بسعادة عكس كل ما مر بهما. فلا نعرف هل هو حلم أم حقيقة أم أنهما قد قضيا في الإعصار، وكأن المخرج يقرع جرس الانتباه كيف نقتل عالم الطفولة النقي.

في تتالي مستويات السرد نكتشف عالم كل شخصية وطريقة تفكيرها ورؤيتها، ونكتشف تفاعلها مع المحيط، وبتقاطع الأحداث يمكننا التكهن من أين استمد المخرج هيروكازو كوريدا عنوان الفيلم (وحش) الذي كان يطلقه الأب العنيف على ابنه، بينما هو يعبر ليس فقط  عن وحشية عالم الكبار في تعاملهم مع الأطفال، بل يقودنا إلى وحشية البنيان الاجتماعي وأحكامه التي تنظر إلى الأشياء والأحداث بجمود وتطلق أحكامها القاسية والمدمرة للفرد، فتتم التضحية به مقابل بقاء الجماعة التي تدافع عن منظومة الأحكام البيروقراطية التي يتم تدمير الإنسان تحتها.

نال الفيلم جائزة كوير بالم، وهي التي تمنح لأفضل فيلم يتناول المثلية الجنسية، وقد صرح المخرج أن الفيلم لا يتناول المثلية على وجه الخصوص، لكن بإمكاننا رؤية علاقة الصديقين تعبر عن الأزمة العاطفية لكليهما، وعدم تفهم المجتمع لهما، فحتى ميناتو كان والده المتوفي بعلاقة مع مومس.

أبدع المخرج بتصوير عالم الطفولة النقي الذي يقوم بقتله الكبار عبر وضعهم في قالب المعطى الاجتماعي، وكانت مشاهد الطفلين في النهاية وفي المقطورة التي زيناها من أبدع المشاهد في موازاة العالم الطفولي الجميل بكل نقائه وبراءته وطاقة الحياة مع الطبيعة، بالمقابل كيف يدمر عالم الكبار الذي يدار بالقوالب الإدارية المستعبدة كل ذلك، وتتعدد ضحاياه من الأم إلى المدرس إلى المديرة نفسها. 

هل أراد المخرج بعنوان الوحش أن يصف هذه القوالب الجامدة والأحكام المسبقة التي تقتل الفرد وتصنع من الأطفال مجرمين؟ فالمشهد الأول في الفيلم حريق ضخم في المدينة يعترف الطفل يوري في ما بعد بأنه من أشعله، في محاولة قتل الأب الذي يرتاد الحانة في ذلك المبنى كل يوم.