المسرح والجمال توأمان

ثقافة 2024/07/03
...


أ‌. د. باسم الأعسم



يتفرد المسرح عن سائر المدركات البصرية، بوصفه خطاباً فنياً وتعبيرياً منفتحاً على مجمل الفنون والآداب المجاورة له، بسبب طبيعته التركيبية، وبنية خطاب العرض المسرحي المهيئة لاستقبال مختلف الفنون والآداب والعلوم التي تسهم جميعها في إنتاج خطاب العرض المسرحي بأنساقه السمعية والبصرية والحركية، إذ إن المسرح بحقيقته يمثل لوحة تشكيلية متحركة، تتشكل من سائر الفنون العلمية والأدبية والتجريبية والتقنية، لذلك سمي المسرح بأبي الفنون، بوصفه فناً شاملاً يستقطب عناصر اللوحة التشكيلية كالخط، واللون، والكتلة، والفراغ، والظل، والضوء، إلى جانب فنون الرقص، والغناء، والتقنيات الرقمية، وفنون الأدب، والسينما، حتى أصبح فناً موسوعياً إن صح التعبير، وهذا ما لم يحدث في الفنون كافة.

لذلك، تفرَّد المسرح في صناعة الصور المدهشة، والممتعة، التي أضفت عليه سحراً جاذباً من جرَّاء تلك التشاركية في صناعة الصور الجمالية، وعليه، فإن من أقرب وألصق البنى المجاورة للخطاب المسرحي هو الجمال الذي يقترن شرطياً بخطاب النص الدرامي و نص خطاب العرض المسرحي، فقد ثبت بالدليل القاطع أن الجمال، هو المعيار الأهم في الحكم النقدي على نجاح النص أو العرض من عدمه، فالعروض المسرحية الناجحة، والمتألقة، هي العروض الجميلة وأن العروض الفاشلة، هي العروض القبيحة، أو غير الجميلة شكلاً ومضموناً.  

لذلك، إن التجارب المسرحية العالمية - خاصة - تعنى بالعنصر الجمالي منذ البروفة الأولى، أي منذ اختيار النص والممثلين وحتى الجنرال بروفة، إذ إن الاختيار هو الأساس في تحديد نسبة النجاح، فيبدأ المخرج بابتكار وسائل فنية وتعبيرية وتقنية كفيلة بتحقيق الجمال وتنمية وتائره، فينتقي الممثلين المهرة، والمكان الأفضل، والسينوغرافيا الأجمل، والموسيقى المناسبة، والزي الملائم، والإضاءة المؤثرة، انتصاراً للجمال، الذي يعد الطاقة الرئيسة المولدة للاستجابة الوجدانية والذهنية والجمالية، ومن ثم الرسالة المطلوب بثُّها إلى الجمهور لتشرح صدره، وتمتع فكره.

على وفق هذا المنظور، ((ينبغي أن يكون العرض جميلاً بمكوناته ومكملاته، وجليلاً بمحتواه، كيمّا يحوز على رضا المتلقين على اختلاف وعيهم، وذوقهم، وثقافتهم، إذا ما أدركنا أن المسرح يعني الجمال بالدرجة الاأساس و الذي يعد من أبرز البنى المجاورة للمسرح))(1).

إن هذه الرفقة الحميمة بين المسرح والجمال، عززت فاعلية المسرح بوصفه خطاباً جمالياً بالدرجة الأساس، ويشكل الجمال فيه نسقاً بنيوياً مهيمناً، نابعاً من طبيعة المسرح كخطاب إبداعي، مما يؤكد أن الجمال صنو المسرح، وأن ((جمالية العرض المسرحي تتمثل في قدرة علامات العرض وأنساقه المتنوعة على خلق المسافة الجمالية بين المتلقِّي والعرض، ولكي تتجسد الاستجابة الجمالية لدى المتلقِّي من خلال التجربة الجمالية التي يشيُّدها المخرج))(2).

ثمة مزية يكاد يتفرَّد بها المسرح ومؤداها أن الجمهور قد ألِف الذهاب إلى المسرح بقصدية لإشباع حاجته الجمالية، وإثراء عيونه بجماليات الأداء، والسينوغرافيا، ويدفع لأجل تلك الغاية، الأموال لمشاهدة العروض المتوفرة على بواعث الجمال، سواء كانت المسرحية فصيحة أم عامية، طويلة أم قصيرة، حوارية أم صامتة، حديثة أم قديمة، تجريبية أم تقليدية، فالأهم أن تكون جميلة، تستحق العناء، وتسر النفوس، والإ بماذا نفسر استمرار بعض العروض المسرحية لعدة شهور أو سنوات؟! ولو كانت قبيحة وليست جميلة، هل تحظى بهذا الزخم الجماهيري؟! وبسبب اقتران الجمال بالمسرح، باعتبارهما توأمين، فقد توالت أشكال العروض المسرحية، وتنوعت الأساليب الإخراجية، وتسابق المؤلفون والمخرجون، والمصممون، لرفد العروض المسرحية. بتنويعات جمالية آسرة، تسر الجمهور، وتضفي قدراً من الشرعية الإبداعية على العروض المسرحية الطاردة للقبح، والرتابة، فاصبح لكل اتجاه مسرحي جمالياته الباعثة على الاستجابة، منذ الإغريق وحتى آخر اتجاهات الحداثة وما بعدها، واجتهد المخرجون بابتكار الوسائل والنظريات المنتجة للجمال، أمثال (برتولد بریشت، و مايرهولدر وگروتوفسکی، وبروك، وشاينا، وباربا، و منو شكين. وولسون).

صحيح أن العرض المسرحي بمثابة جواز مرور للعديد من الأفكار، والفلسفات، والرؤى، لكن لا قيمة لكل ذلك، إذا لم تصَغ تلك الأفكار والفلسفات بحسب أساليب فنية وجمالية كيمّا تبدو مقبولة، وضمن سياقات العرض السمعبصرية، والزمكانية، فحتى السياسة التي تثقل كاهل العرض المسرحي لمباشرتها، لكنها تبدو مستساغة من قبل الجمهور عندما تُخرج فنياً وتبرر جمالياً، وهكذا هي الحال مع أيما فكرة، أم عقيدة يراد طرحها من على خشبة المسرح، مثلما تعالج الفلسفات والموضوعات والأحداث المباشرة والواضحة في مسرح برشت التعليمي وبسكاتور السياسي، إذ تتم معالجة الأفكار والآيديولوجيات على وفق مبدأ التغريب المسرحي، من خلال جعل اللامألوف مألوفاً وبالعكس، فتستساغ المقاربات التي لها جمالياتها الخاصـــــة بها وأساسها المفارقة والموضوع. 

لعل أهم دليل على وثاقة الصلة بين الجمال والمسرح، تخلّي العديد من المخرجين العالميين والعرب عن العديد من أنساق العروض كالديكور والأزياء والماكياج والاكسسوارات، والاكتفاء بالجسد السارد أو الجسد الراقص، لكن لا يمكن الاستغناء عن الجمال (جمال الأداء)، أو جماليات التكوين، وهنا نستدل بشكل قاطع على هيمنة نسق الجمال على نسق الأشكال والمضامين .


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أ. د . باسم الأعسم، (قراءات في النقد المسرحي) بغداد، دار الشؤون الثقافية، 2021 ط1  ص ٣٤.

(2) أ. د. باسم الأعسم، إضاءات مسرحية، (بغداد: وزارة الثقافة، ٢٠٢٣ ص ٢٢٣