رحيل سيدة القصّة القصيرة أليس مونرو

ثقافة 2024/07/03
...






أنتوني ديبالما

تحرير وترجمة: عبود الجابري


رفضتْ أليس مونرو السفر إلى السويد لتسلّم جائزة نوبل، قائلةً إنَّها متعبة للغاية. وبدلاً من المحاضرة الرسمية التي يلقيها الفائزون تقليدياً، سجَّلت مقابلةً طويلة في بريطانيا التي كانت تزورها عندما تمَّ الإعلان عن جائزتها، وعندما سُئلت عما إذا كانت عملية كتابة قصصها قد استهلكتها بالكامل، أجابت أنها فعلت ذلك، ثم أضافت: “لكن كما تعلم، كنت أعدُّ الغداء دائمًا لأطفالي”، كناية عن التزامها بمتابعة شؤون بيتها.

أليس مونرو، الكاتبة الكندية التي بدأت كتابة القصص القصيرة لأنها اعتقدت أنها لا تملك الوقت أو الموهبة لإتقان الروايات، ثم كرَّست بعنادٍ حياتها المهنية الطويلة لإنتاجِ قصصٍ كثيفة نفسيّاً أبهرت عالم الأدب وأكسبتها جائزة نوبل، توفيت في الثالث عشر من أيار، في إحدى دور رعاية المسنين في مقاطعة أونتاريو الكندية عن عمر يناهز الثانية والتسعين. 



اعتُبرت قصصُ السيدة مونرو على نطاقٍ واسع، مزيجاً لا مثيل له من الأشخاص العاديين والموضوعات غير العادية، فقد صوَّرتْ سُكّان البلداتِ الصغيرةِ، غالباً في المناطق الريفية بجنوب غرب أونتاريو، وهم يواجهون مواقفَ جعلتِ الخيالَ يبدو حدثاً يومياً، لدرجةِ أنَّ القراء وصلوا إلى مستوى عميقٍ من العلاقة الحميمة معهم، وهو أمر لا يحدثُ إلّا مع الروايات.

حقَّقت مونرو هذا الاكتناز، من خلال براعةٍ حرفيَّةٍ رائعة جعلت بعض الكُتّاب يرونَ أنَّ بعضَ قصصِها شبهُ مثالية، وهو أمرٌ يمثل عبئاً ثقيلاً على كاتبةٍ ذات شخصية متواضعة، كافحت للتغلُّب على نقص الثقة بالنفس في بداية حياتها المهنية، حيث تركت حضناً هادئاً كان يوفر لها الحماية، مسقط رأسها، وغامرت في اقتحام المشهد الأدبي.

ورغم شعورها القوي بعدم الأمان، إلّا أنَّ زملاءها لم يلحظوا عليها أياً من علاماته، ما جعلهم يحتفلون بمهارتها ويثنون عليها بطريقة واضحة.

فقد وضعتها الروائية الإيرلندية إدنا أوبراين، في مصاف ويليام فولكنر وجيمس جويس من حيث تأثيرها في عملها، وقالت جويس كارول أوتس إنَّ قصص مونرو “تتمتع بالكثافة الأخلاقية والعاطفية والتاريخية أحيانًا، التي تتمتَّعُ بها روايات الكتّاب الكبار”، فيما قال الروائي ريتشارد فورد ذات يوم إنَّ التشكيك في براعةِ السيدة مونرو في القصَّة القصيرة سيكون “أشبه بالشك في صلابةِ الماسِ أو ثمارِ الخوخ الناضجةِ”. 

حصدت السيدة مونرو نجاحاً مبكراً تمثل بفوز مجموعتها القصصية الأولى، “رقصة الظلال السعيدة” (1968)، بجائزة الحاكم العام الأدبية، التي تعادل جائزة بوليتزر للرواية، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة، وبدأت تنشر قصصها في مجلة نيويوركر عام 1977، ولمع اسمها بمعيَّةِ جيل من الكتاب الكنديين، مثل مارغريت أتوود ومايكل أونداتجي، اللذيْنِ تجاوزتْ شهرتُهما حدود البلاد، وكان من أهمِّ مآثرها في العام 2009 أنها انسحبت من جائزة وطنية في كندا، لأنها أرادت أن تفسح الطريق أمام الكتاب الأصغر سناً للفوز بالجائزة، غير أنها حصلت على جائزة مان بوكر الدولية في العام ذاته، عن أعمالها الكاملة، ونوَّهت لجنة التحكيم بأنَّ مونرو، “على الرغم من شهرتِها في الغالب ككاتبةِ قصةٍ قصيرة، إلّا أنَّها “تضفي على كل قصة نفس القدر من العمق والحكمة والدقة الذي يجلبه معظم الروائيين إلى الروايات العظيمة”، كما أشارتِ اللجنة إلى “أنَّ قراءةَ أليس مونرو تعني في كل مرَّةٍ، أن تتعلَّمَ شيئاً لم تفكِّر فيهِ من قبل”.

عشيَّةَ منحِها جائزة نوبل عام 2013، وكانت في الثانية والثمانين من عمرها، استشهدت الأكاديمية السويدية بجميع أعمالها القصصية، وكان عددها 14 حينذاك، وأشارت إليها على أنها “سيدة القصة القصيرة المعاصرة”، مشيدةً بقدرتها على “استيعاب التعقيد الملحميِّ الكاملِ للرواية”، في بضعِ صفحات قصيرة فقط.

تمكنت السيدة مونرو من أن تعيش حياة رائعة بسبب طبيعتها الشخصية، وقد كانت أيامها، مثل أيام شخصياتها، مليئة بالروتين اليومي الذي يتخلله الغموض المليء بالمصادفات، وباستثناء العقد الذي قضته على الساحل الغربي لكندا خلال زواجها الأول، عاشت بقدر كبير من الرضا بين أشجار التوت البري في أونتاريو التي احتفت بها في قصصها التي كتبتها بهدوء في المنزل الذي نشأ فيه زوجها الثاني، والذي لم يكن بعيداً عن مسقط رأسها.

بمرور الزمن، بدت قصصها وكأنَّها أصبحتْ أكثر قتامةً وأكثر تناقضاً، على الرغم من أنَّها كانت تصفُ حياتها بأنَّها عادية وتدعو للتفاؤلِ بشكل عام، لكنَّ شخصيّاتِ قصصها انحصرت في الغالبِ بأشخاص بسطاء، يواجهون ظروفاً غير عادية، وقد تكون غريبةً في بعض الأحيان، مثل حادثِ الجنديِّ الذي قُطِعَ رأسُه عند عودتهِ من الحرب، بعدما علِقَ كمُّ قميصِهِ في ماكنةٍ أحد المصانع، أو تصرفاتِ فتاة تفتقرُ إلى الجاذبيةِ، فتلجأُ إلى سرقة المال من أبويها، وبصورةِ عامة كانتِ النساءُ في قصصها محطّماتٍ عاطفيًا، مطلَّقاتٍ، وزانياتٍ، وضحايا نبيلاتٍ لتقلُّباتِ الحياة.

ولعلَّ السؤال الذي طاردها طوال مسيرتها الإبداعية هو، لماذا اقتصرت كتاباتُها على عالمِ القصَّة القصيرة المحدود، بدلاً من الانطلاق في عالم الروايةِ اللامع، رغم مواهبها الوفيرة ونظرتها الثاقبة؟ لكنَّ السيدة مونرو قالت لميرفين روثستين من صحيفةِ التايمز في مقابلة أجريت معها عام 1986: “أنا لا أفهم حقّاً ما هي الرواية، ولا أفهم أين من المفترض أن تأتي الإثارة في الرواية، أنا أفهمُ ذلك في القصة، هناك نوع من التوتُّر الذي إذا حدث في القصة بشكلٍ صحيح، يمكنني أن أشعر به على الفور”.

في حينِ تُطلَقُ تسمية الرواية على إحدى مجموعاتها القصصية المبكرة، “حياة الفتيات والنساء”، إلّا أنَّ السيدة مونرو ومحرِّرها كانا يعدّانها مجموعة من القصص المترابطة، بينما قالت لمجلَّةِ باريس ريفيو: “بمجرَّدِ أن بدأتُ في كتابة هذه المجموعة، توقفت عن العمل، لأني ارتكبت خطأ كبيراً حين حاولت أن أجعلها روايةً عادية، نوعاً عادياً من روايات الطفولة والمراهقة، وحين وجدت أنَّ الأمر غير مناسبٍ بالنسبة لي، بدأت أشعر بالاكتئاب، لأنني سأضطرُّ إلى التخلّي عن كتابتها، ثم خطر لي ما فعلته لاحقاً، وهو تفكيك النصِّ وإعادةُ كتابته على شكل قصصٍ قصيرة، الأمر الذي سهل علي مهمة العودة إلى التعامل معه”.

 أقسمت مونرو إنها لن تكتب رواية أبداً، ورفضت هذا التحدي باعتباره أكبر من أن تحاول حتى القيام به، لكنها بدت في أوقات أخرى وكأنها تتساءل بحزن، على لسان إحدى شخصياتها، عن الاختلاف الذي سيجتاح حياتها لو أنها كتبت رواية رائجة.

 بينما قالت في مقابلة أجريت معها عام 1998، بعد الاحتفاء الذي حظيت به مجموعتها القصصية “حبُّ امرأة طيبة”، “أفكر في شيء الآن، كيف يمكن أن أكتب رواية؟”، واعترفت بأنَّها جرَّبت في بعض الأحيان تحويل قصصها إلى روايات، قائلةً إنها وجدت أنَّ القصص “تبدأ في الترهُّل” عندما فعلتُ ذلك، كما لو أنها تجاوزت حدودها الطبيعية، ومع ذلك، لم يتبخَّر الإغراء تمامًا، حيثُ قالت في عام 1998: “طموحي هو أن أكتب رواية قبل أن أموت”.

تجنبت أليس مونرو الكثير من الدعاية المرتبطة عادة بالنجاح الأدبي، وحدَّدت من ظهورِها الاجتماعي، وغالبًا ما كانت تشير إلى نفسِها بطريقة استنكارية أبعد ما تكون عن النرجسية، قائلة إنها “لم تخرج من الخزانة” بوصفها كاتبة محترفة حتى بلغت الأربعين من عمرها، ووصفت نفسها بأنَّها “كادحة” بسبب الطريقة البطيئة والمتعمدة التي كانت تعمل بها.


_______ 

• المصدر: نيويورك تايمز

• أنتوني ديبالما: كاتب وصحافي أميركي، يعمل مراسلًا لصحيفة نيويورك تايمز وهو كذلك أستاذ مساعد في كلية الدراسات العليا للصحافة بجامعة كولومبيا.