المسؤوليَّة الأخلاقيَّة.. إرادة حُرَّة

منصة 2024/07/03
...

 كاظم لفتة جبر

يسعى الإنسان منذ القدم إلى البحث عن التكامل بين الروحي والمادي، من خلال علاقته بين الطبيعة والآلهة، فعبر تاريخ الفكر الإنساني ظهرت الكثير من الفلسفات والديانات والأفكار العلميَّة التي تبحث عن سبل هذا التكامل لكن أغلبها فشلت، لأنها ترى الحقيقة في جانب من دون الآخر، لذلك تجد العالم منقسم بين مسعى الماديين ومسعى الروحيين.

لذلك سادت فكرة أنَّ المرء يولد أما افلاطونيا أو أرسطياً، وكل أمة أصبحت تتسم ثقافتها بمعيار معين، فالغرب المادي، والشرق الروحي، وأن أرقى الأمم التي توحد ذاتها مع العالم.

ويبقى مفهوم المسؤولية مفهوماً نسبياً من حيث التعامل به في الحياة اليوميّة، فرجل المرور مسؤول عن حركة السيارة في الشارع وهي مسؤولية قانونية، والدولة مسؤولة عن ضمان حقوق شعبها وهي مسؤولية تعاقديّة، والأب مسؤول عن عائلته وهي مسؤولية وجودية أخلاقية، والمثقف مسؤول عن كلمته وهي مسؤولية أخلاقية، لذا فالمسؤوليات متعددة وواسعة، من حيث تعدد فهم الناس للمسؤولية من حيث المعتقد والدين والثقافة والقانون والاقتصاد والجمال والفن.

وما يهمنا هنا هو الحديث عن مفهوم المسؤولية الأخلاقيَّة هل هي متغيرة من عصر إلى آخر؟، وهل هي نسبيّة أم مطلقة؟ ركز الفكر الإنساني والفلسفي خاصة منذ القدم على المسؤولية الأخلاقيّة بوصفها المسؤولية الأهم كونها ترتبط بالإرادة الحرة للإنسان والمجتمع. 

يمكن تعريف المسؤولية الأخلاقية بأنّها التزام أخلاقي اتجاه الآخر من دون مقابل، سواء كان هذا المقابل ذا منفعة مادية أو غاية وظيفية أو مصلحة معنوية. 

فمع شيشرون الفيلسوف اليوناني تجد أن المسؤولية اقترنت بمفهومي الواجب والالزام، فالواجب ظاهري مادي، والالزام شعور باطني روحي، فالواجب نسبي متغير، ولا ضير أن ارتبط بمنفعة أو مصلحة أو غاية، أما الالزام فهو الشعور الباطن والمحرك النفسي للأفعال وهو مقابل للضمير.

فالأخلاق المعياريَّة تعمل على ما ينبغي أن يكون عليه سلوك الأفراد ومدى ملاءمتها للقواعد والمعايير الأخلاقيَّة، علماً أنَّ القواعد والمعايير الاخلاقيّة مستمدة من المجتمع، وهي متغيرة وفي صيرورة دائمة من عصر إلى آخر، أو من بيئة إلى أخرى.

او من مجتمع إلى آخر تبعاً لمتغيرات الفكر الحاكم والبنية التحتيّة والاقتصاديّة. 

فإذا كانت المسؤولية تعني الواجب الأخلاقي الضروري المطلوب من الإنسان فعله، فإنّه مرتبط بمفاهيم أخلاقيّة أخرى مثل الضمير وحرية الإرادة، كما أن الضمير هو منع الإرادة الحرة من أي فعل منافي لطبيعة الإنسان. 

ومعروف أن الضمير مرة يكون فطريا إنسانيا، ومرة مكتسبا أو طبائعيا اجتماعيا، الأول خير بالضرورة، لكن الثاني متغير ونسبي تبعاً لثقافة وتقاليد ودين المجتمع، لذا فالواجب مرتبط بالضمير المكتسب كما يؤكد الفيلسوف الإنكليزي جيريمي بنثام في كتابة "علم الأخلاق" إن دراسة الواجبات دراسة واقعيّة لا دراسة نظريّة، لأن الواجب عنده ليس أمراً مطلقاً، كما هو عند إيمانويل كانط، بل أمر تجريبي متعلق بالمواقف والظروف الاجتماعية، أما الالزام كشعور، فهو مرتبط بالفطرة السليمة 

للإنسان. 

ويستخدم شيشرون مفهوم الطبيعة لتحديد مفهوم الواجب الأخلاقي على مستوى الفرد، وعلى مستوى الجماعة، فالبشر يتشاركون بطبيعتين: الأولى طبيعة بشريّة عالميّة تنشأ من حقيقة العقل، والثانية: نوعيَّة مخصصة لكل فرد على حدة. 

 ويؤكد شيشرون على حقنا كأفراد في تطوير فرديتنا الأخلاقيّة شرط ألا تتعارض مع أخلاقيات الطبيعة البشريّة العالميّة العقليّة، لأنَّ ذلك قمة الرذيلة، وهذا ينطبق على ما يفعله الغرب الآن من تمكين لبعض الأمراض الفرديَّة لشيوعيها في العالم، أو ما تفعله الصهيونية في غزة، بمعنى أن الواجبات الأخلاقية عنده نسبية من جانب، لكنها مطلقة من جانب الالزام الأخلاقي للإنسان.

لذلك يربط الواجب الاخلاقي بالفضيلة. 

وهذا الذي يجعل شيشرون مختلفاً مع الفيلسوف كانت في جانب ومتفقاً معه في جانب آخر كون الواجب الأخلاقي عند كانت يعتمد على القاعدة لا على النتائج. 

أما في عصرنا الحالي فالمسؤولية الأخلاقية تحتم علينا الانصياع للمشاركة والتفاعل مع العالم الافتراضي والرقمي، وهذا يجعلنا أمام مسؤولية هشة ومخادعة تتلاعب بها الصورة والكلمة بحسب توجهات الإعلام السياسية والإيديولوجية، وهذا يجعل المسؤولية أمام فوضى التوجهات وانغلاق الأفق لاكتشاف ذواتنا عبر الضمير. 

فالحياة الأخلاقية أصابها فيروس التكنولوجيا الحديثة، فبدلت الضمير بالشريحة، والإرادة بالمال والشهرة، فالذي يملك الشهرة له سطوته الأخلاقية على الأفراد والمجتمعات، فحتى أخطاؤهُ مسموحة كونه أنموذجاً لهذا المجتمع وضمير الأفراد الهش. 

وعليه فالمجتمع المتقدم هو الذي يلتزم بالمسؤولية كونها أخلاقاً قائمة على 

المحبّة واللطف والكرم، وليس قانوناً يحدد ماهية  الحقوق والواجبات للأفراد.