التنمية الثقافيَّة المستدامة وثقافة المتحف

آراء 2024/07/03
...

 د. طاهر علوان

 

خلال فترات النزاع أو الاضطرابات المدنية التي شهدتها بلدان من بينها العراق، وهي بلدان تعرضت فيها المتاحف للخطر، بسبب اللصوص الباحثين عن قطع قيّمة أو عن رموز للهوية الوطنية، اتخذت اليونسكو سلسلة من التدابير لحماية المتاحف وإصلاحها. كما تعمل المنظمة على بناء قدرات أخصائيي المتاحف لتمكينهم من صون المجموعات وإعداد قوائم جرد لها وتوثيقها من أجل الإسهام في مكافحة عمليات الاتجار غير المشروع بالقطع الأثرية والثقافية.”


لا شكَّ أن الثقافة وقطاعاتها لها علاقة مباشرة بحياة المجتمعات وأنماط العيش والعادات والقيم والمؤثرات الثقافية والمنجز، الذي يتشكل إبداعا أما فرديا أو جماعيا.

وخلال ذلك يتراكم ما تتركه المجموعات البشرية وما تخلفه من آثار ثقافية بتتابع الأجيال، لا سيما مع أجيال المبدعين والمؤثرين وصانعي الخطاب الثقافي المتجدد، وصانعي المنجز الفني والأدبي والإبداعي بصفة عامة.

وبمرور الزمن يتعرض ذلك المنجز القيم إلى التبعثر والضياع والاندثار، وهو خلل وظيفي في مسؤولية قطاع الثقافة والإدارات البلدية في الإلمام بكل ذلك الأثر وجمعه وأرشفته وتبويبه.

إن حالة الإهمال واللامبالاة السائدة تجاه المتحف كوحدة بصرية، هي في الواقع خسارة فعلية لتلك الآثار يفاقم ذلك عدم وجود رؤية واضحة تتعلق بكل شريحة من المجتمع، يتم جمع آثارها بما لا يؤدي إلى ضياع منجزها وهو ما يسهم في إنقاذ جوانب كثيرة من خواص الهوية المجتمعية.

لا شكَّ أن مهام التنمية الثقافية تتعدى نشر بضعة كتب أو إقامة بضع ندوات إلى ما هو استراتيجي وبعيد المدى، وتشكل ثقافة المتحف علامة فارقة في ميدان التنمية الثقافية والرؤية الاستراتيجية لقطاع الثقافة، التي لا تزال غائبة بشكل شبه تام في العراق منذ 2003.

بالطبع يمكن مقارنة الأموال الطائلة التي أنفقت على القطاع الثقافي والبلدي والتي ربما كثير منها أو بعضها لم يثمر إلا عن نشاطات انتهت بانتهاء أوقات إقامتها مقارنة بالقصور عن إقامة (مشاريع) ثقافية مستدامة.

إن الاستدامة الثقافية أو ما يعرف Cultural sustainability تتطلب تأسيس مشاريع ثقافية قابلة للحياة، وفيها مقومات الاستمرارية الزمنية من جهة وكونها تحمل قيمة ثقافية وتاريخية مفيدة للمجتمع.

إننا نشاهد في مناسبات كثيرة النشاطات الثقافية المنبرية التي تعتمد على إلقاء الشعر مثلا، ورغم المخزون الشعري الهائل للعراق واكتنازه على عشرات الشعراء من مختلف الأجيال ومختلف العصور، إلا أن تلك المنبرية لم يرافقها قط النظر عميقا فيما خلفه شعراء ومبدعون سابقون من آثار تحت سقف المتحف كمنظومة ثقافية وأرشيفية وفضاء للحوار.

في المقابل هنالك موروث شعبي هائل وصناعات شعبية كثيرة أما أنها انقرضت أو هي في طريقها إلى الانقراض، وهذه هي الأخرى تحتاج إلى ان تنتشل من الضياع والاندثار بإقامة متاحف التراث الشعبي لكل بيئة من البيئات.

يشير برنامج اليونيسكو التابع للأمم المتحدة في اطار الاستدامة الثقافية إلى أهمية المتحف وثقافة المتحف والى أن “ المتاحف ليست مجرد أماكن تُعرض وتُحفظ فيها القطع والأعمال الفنية. وليست جزءا من قطاع السياحة الثقافية بل إنها يمكن أن تؤدي دوراً رائداً في تدعيم الاقتصاد الإبداعي على الصعيدين المحلي والإقليمي. ويزداد حضور المتاحف أكثر فأكثر في الحياة الاجتماعية بوصفها منابر للحوار والنقاش تجري فيها معالجة القضايا الاجتماعية المعقدة في إطار يشجع مشاركة عامة الجمهور.

وتدعم اليونسكو البلدان النامية عن طريق تسخير الإمكانيات التي توفرها المتاحف لتعزيز التماسك الاجتماعي، وذلك على صعيد المجتمعات المحلية والفئات المحرومة بوجه خاص. 

فخلال فترات النزاع أو الاضطرابات المدنية التي شهدتها بلدان من بينها العراق، وهي بلدان تعرضت فيها المتاحف للخطر، بسبب اللصوص الباحثين عن قطع قيّمة أو عن رموز للهوية الوطنية، اتخذت اليونسكو سلسلة من التدابير لحماية المتاحف وإصلاحها. كما تعمل المنظمة على بناء قدرات أخصائيي المتاحف لتمكينهم من صون المجموعات وإعداد قوائم جرد لها وتوثيقها من أجل الإسهام في مكافحة عمليات الاتجار غير المشروع بالقطع الأثرية والثقافية.”

لا شك أن اليد الممدودة من اليونيسكو يجب أن تستثمر عراقيا بشكل جاد وان يتم اختيار موظفين أكفاء من بين ملايين الموظفين في الدولة العراقية ليكونوا متخصصين في قطاع المتاحف وهو ما سوف يندرج في اطار رؤية مستقبلية لا بد أن تعتمد بشكل عاجل سواء في نطاق المراكز الأثرية والحضارية العراقية: سومر وبابل واكد وآشور أو في نطاق المناطق الحضرية والقروية، إذ إن الموروث الثقافي والشعبي لكل محافظة من محافظات العراق أو اغلبها غزير في ما يحتويه من مكونات تغذي ثقافة المتحف.

لقد لفت نظري شخصيا دعوتين صدرتا خلال شهر واحد هو شهر حزيران من هذا العام صدرتا عن دولة رئيس الحكومة العراقية السيد محمد شياع السوداني، لم اسمع قبلهما دعوة ملحة كهذه في لفت أنظار المسؤولين في جميع المحافظات باتجاه إنشاء المتاحف وإشاعة ثقافة المتحف ثم الإيعاز إلى أمانة بغداد، لغرض الشروع بإقامة متاحف لائقة بالشخصيات العراقية ذات المنجز الثقافي والإبداعي والتاريخي.

ولربما يضاف إلى تلك الدعوة، الحفاظ على التراث والموروث الشعبي الآيل إلى الانقراض ودعم الصناعات الشعبية والتقليدية، التي هي جزء مهم من هوية أي شعب واي مجتمع وكل تلك الدعوات التي صدرت من دولة الرئيس، بحاجة إلى استجابات عاجلة ومدروسة والى رؤية واضحة للتنمية الثقافية المستدامة لا نزال ننتظر أن تصدر من جهة ما، ثقافية خاصة أننا لا نزال نفتقر إلى الرؤية الثقافية والتخطيط الثقافي والتنمية الثقافية المستدامة، ومنها وجزء حيوي منها تنفيذ توجيهات إشاعة ثقافة المتحف وإنشاء المتاحف كجزء من التمدن وعصرنة الحياة والتفاعل الحضاري مع الثقافة كقيمة تليق بالعراق ذي المخزون والإنجاز الثقافي الكبير.