خضير الزيدي
في أكثر من محاولة فنيّة وجماليّة يقدم لنا بشير مهدي أعماله لتكون شاهداً على أسلوب متميز ورؤية ثاقبة تجمع بين قدرة الرسم والفوتوغراف، وشاهدنا منذ زمن كيف أنجز أعمالا بقيت في ذاكرة المتلقي لما تمتلكه من مقومات ومسعى بصري يعزز من طريقة فهم الرسم والمعروف بأن ثلاث ثيم أساسية يقوم عليها خطابه الجمالي والفني، فمنذ زمن بعيد زاوج بين النمط الغربي والفن الشرقي، وأوجد بين ذلك علاقة جمالية الغرض منها تقديم لوحاته بصوت لا يمثله أحد غيره من أقرانه الفنانين. وتبدو لعبة التوظيف الجمالي للفكر الاستشراقي من سمات أغلب العراقيين الذين انتهى بهم المطاف المكاني داخل العالم الغربي وخاصة أوروبا.
وواحد من بين أولئك الفنانين هو بشير مهدي التشكيلي العراقي الذي هيمنت على رسوماته مخيلة شبه غرائبية نسردها هنا بعد أن نؤكد على ثيماته الثلاث التي نوهنا إليها في بداية كتابتنا.
أولهما لا تخلو أية لوحة لديه من ثنائية أساسية تقوم على أساس الظل والضوء، وكأن تعرج الظل داخل اللوحة القاسم المشترك الذي يجسد المحتوى الداخلي لنظام ومضمون العمل الفني وهو محاولة استبطان الأطر الدلالية التي تحيل الأشكال من نمط بنائي غرائبي إلى سياق صوري ثابت في خصائص وبنية الرسم اللون المعتمد على فكرة وإيجاد ضوء وظل داخل العمل.
أما الثيمة الثانية التي تمثل أغلب أعماله فهي التركيز على أشياء ذات أثر أشياء حية في شكلها ذات مؤثر رمزي يغري بوجود حياة داخل المكان الموحش، وهو ما يدل على صيغ تعطينا طابعا حكائيا مع إمكانية وصف لمظاهر المكان، ولكن إي مكان يعمل عليه الفنان بشير؟
إنه المكان التراثي والمحمل بروح شرقية فالكثير من تلك التشكيلات تحمل الجدران/ وطقوس مكان يشبه الكنيسة بكل رموزها وإشاراتها المسيحية.
أما الثيمة الأخيرة التي نستشفها من أعماله الفنية، فهي تشير لبناء قاعدة متينة الغرض من التزاوج بين العمل الفوتوغرافي والتشكيلي، فالمراقب لتكويناته تعطيه زخما صورياً وشكلاً يقوم على أساس المزج بين الاثنين وكأنه يخلق معادلة بصرية تعدم بها شواهد اللون والتشكيل لإثبات تأثيرها القائم على تداخل هذين النمطين من البناء الرمزي والفني.
ما نود قوله هنا إن هذه الطريقة تبدو من المنظور العام تحمل سمات الفن المشير إلى تقديس الأشياء الروحية توازيها الرؤية المحملة بالفكر الشرقي لتحتل أغلب أعماله الفنية طريقا غايته أن تكون هوية هذه الأعمال ذات مركزية تنبع استجابة لعاطفة جياشة يكون المكان والأثر التعبيري له مهيمنين وواضحين على ضربة فرشاته.
وهذه السخونة في التشكيل البصري والوجداني تعجلها الانفعالات، وهي تتسرب على السطح التصويري مسبوقة بنداء جدلي ونظري هوسه التركيز على مهيمنات الخطاب الشرقي تحت طائل "الحسية/ والتأسيس".
ومن هكذا فكر يسلب الإرادة الداخلية قوتها التعبيرية ينمو داخل رحمها الرمزي انجذاب إلى المكان بوصفه مشكلا جغرافيا والزمان بوصفه لحظة استعارة وهمية، لكن المعنى الدلالي لتلك الأعمال والتكوينات لا تغادر الرؤية الفنية التي تقوم في الأساس على إيجاد قيمة أسلوبية ثابتة توازن بين القديم والحديث من دون أن تخل بتعبيريتها فتباين مستويات اللون والقيمة الفنية لتطبيع علاقة بصرية بين مفارقة الشكل والمضمون تحمل سمات رامزة تشترك في تكريس وإقامة صلات بين التجلي الذي يذهب به بشير مع أعماله إلى الغيبيات وبين المحافظة على أداء تشكيلي وأسلوبي يقوم على ارتباط "جغرافي واضح للعيان" داخل منظومة اللوحة فهناك الكثير من تكويناته تبدو وكأنها رسمت داخل أزقة وأماكن وكنائس يعود بها التوظيف المشيد إلى تاريخ قديم وهي مدربة على خيال خصب لا يستقر على حال معين وعلى نفس هذا المنوال نتعرف على غطاء لوني داخل اللوحة لم يكن مليئا ببهرجة وتعدد وهذا يدلنا على أسس نفسية تميز ذاته الإنسانية والجمالية معتمدة على ما تدفعه المخيلة بإلغاء ناصية الابتعاد عن المكان "إلام".
هكذا ثوابت في الفن التشكيلي من مهامها أن تملي دلالتها التعبيرية بإشارات واضحة لا غنى للفنان بالابتعاد عنها، بل هناك تواصل مستمر معها يمكن أن يوصف بأنه ضروري وذات نزعة تخلق تصوراً أساسياً يوفر لنا إمكانية التوصل إلى قوة العلاقات الرئيسة والدالة على فضاء الرمز والمضمون داخل المنظومة الفنية والتعبيرية
لهذا الفنان.