ياسين طه حافظ
تساءلنا عن تقاطع الرغبات.. وتقاطع الرغبات أدى ويؤدي إلى شرط كسر الآخر أو ازاحته، ما دام صاحب الرغبة الأخرى مناقضا وهدفا معارضا أو مضادا. وبعد أن قلبنا بعض التفاصيل انتبهنا إلى أن الأدب أو الكتابات الأدبية تتولى كشف هذا المعترك وعواقبه من اضطهاد وإزاحة وإلغاء. إذا كان أساس الأشكال رغبة في القمع فقد كان أساساً رغبة في تحقيق حاجة ذاتية، رغبة أو هدفاً، وإبعاد ما يعيق.
كما نرى، لم تكن البداية شراً، كانت أقرب للخير - إنسان يريد تحقيق مراده أو رغبته أقرب للخير.
كانت إنسان يريد ويذلل الصعاب، فصار إلى الاطاحة بما وبمن يصدّ أو يعرقل.
مدير المؤسسة قد يطيح بالكادر الذي يشاكسه أو يقف من دون نوزاعه.
والزوج بالزوجة التي لم ترتضِ الخضوع ومدير المدرسة بالمعلم الذي، لا يراه "يتعاون" معه! وكذا أيضا تحضر العداوات أو الصدامات الدينية والعنصرية والحزبية السياسية. تتقاطع الرغبات فتتقاطع الأهداف.
البوذيون أبعدوا هذا الاشكال بأن حاولوا ابعاد الذات والتماهي مع الأبعد. هم يحثوننا على افتقاد الذات لا أن نخدمها. لكن الفكر الحديث والفكر الغربي أكثر، يؤكدان على الذات واحتياجها والفردية واحترامها.
وفي الحالين تبقى الاستقلالية مطلباً صعب التحقيق في الحياة العملية، ومطلباً مثيراً ومشوقاً في الكتابة. والأدب يكاد يعتمد هذه المساحة من تفاصيل حصول وسلامة الاستقلالية وتهديداتها.
إن رسم رغبات جماعية وأهداف كبرى تتضمن خدمة الأفراد وسعيهم لتحقيقها كان حلاً: حل أرضى قسمنا من بشر الأرض وابتعد عنه قسم، والقسمان بالملايين وأرى أن الأمر واضح، ولا نحتاج إلى مزيد من التفاصيل. عادت الفردية مصدراً وظلت ما كنا نسميها "أهداف الجماهير".
ولم تحصل عقلية صالحة تهب الإنسان جدوى الاثنين، أو تصل إلى ما يجعل الإنسان لا يخسر، بل يفيد من كل عقله وكل عواطفه وطاقته العملية. ولعل الدين إذ يدعو لما هو صالح للناس ويرضي الله فيه دعوة لكف بعض النزوات أو الرغبات، ثم الأهداف التي تصادر ما للآخر وتلغي حد الايذاء أو اللامبالاة بالوجود الخاص و"المحترم"، أو المهم، له، أعني لمن يشاركنا، يشاركنا العيش أو العمل أو الحياة. لكن الأديان كانت مسايرة للمنطق العملي والواقعي. فـ "يهوه" يوصي الاسرائيليين بتدمير مدن الآخرين. وفي الإسلام نقاتل المشركين والمسيحية تنذر الخارجين عنها بسوء المصير.
إن الأدب حتى الآن، ومع أنه كشف رغبات وسلوكيات وأحوال وإرباكات ما ينتجه التناقض واللا حل، ويعمل على كشف الصراع الاخلاقي داخل الأفراد وهم يرغبون ويريدون تحقيق ما يريدون، لكنه لم يقل كل شيء ولم تكن مهمته المباشرة هي هذه. كان يعبر عن تلك التقاطعات والأزمات ويتركها للقراء وأولاء يرتاحون أن يجدوها معبَّراً عنها ومعلَنه، لكنهم يعودون إلى حال اللاحسم. عموماً حققت الاخلاقيات، من شتى مصادرها، نجاحات محدودة، في المشاركة في الكوارث والتعاطف في أيام المجاعات والأوبئة والمشاركة في مواجهة الأيام العصيبة. لكننا ما نزال بعيدين عن الحلول العلمية- الاجتماعية، قريبين من اللطف الاخلاقي في الفضيلة والطيبة والتعاون وتقديم المساعدة أو المواساة.
من هذا يتضح أن الأدب قدّم في هذا الصدد أكثر مما قدمته الوصايا و"الأخلاقيات" بحدودها. الأدب قدم لنا الناس في الأزمات، راغبين متقدمين لرغباتهم أو مرفوضي الرغبات منكسرين أو ممحوقين، ولكنه عرضهم وترك الميدان بما فيه من مشاهد وإشكالات معروضة أمامهم وعلى الناس أن يحاولوا فعل شيء.
حين انتهى من قراءة رواية، أشعر برغبة في التوجه لمؤلفها، وتحيته ومباركته على حسم اشتباكات عوالم وأحداث وتقاطع شخصيات أبطاله. أنه وصل بهم إلى نهاية ارتضاها لهم، أو لم يجد افضل منها. المهم أنه ترك المشاهد تستقر عند حال.. هل الأدب يستطيع أكثر من هذا؟ على أي حال ما يقدمه ليس سهلاً وليس قليلاً إزاء إشكالات وعسر بهذا الحجم.