ابراهيم داود الجنابي
لا يمكن أن نجد خطابا لونيا خالصا وقائما بحد ذاته إلا في اللوحة سواء كانت انطباعيّة أو سرياليّة، يعني هذا أن محور التشكيل لا لغة له إلا اللون. ولأن تنوعات الخطاب حاضرة ومتمثلة بالخطاب الشعري والخطاب السردي والسياسي والديني إلى آخره من الخطابات التي تحمل مدلولاتها معها من خلال قنوات بثها. فالخطاب التشكيلي خطاب لوني خالص.
أما الخطابات بشكل عام فيمكن القول عنها إنها تحمل في متنها الكثير من العلاقات كاللغة والايديولوجيا وغيرها من المفاهيم المعرفية الأخرى وتبقى اللغة هي الفاعل الأهم، بالإضافة إلى المعطيات الساندة لكل خطاب.
فالخطاب السردي والخطاب الشعري وغيرها كل له استراتيجية خاصة به تتمثل بما ينوي التوصل له من خلال أدواته المعرفية وطرق البث التي يروم.
يعد الخطاب الشعري أكثر من غيره من الأجناس الأخرى تكثيفا وتقاربا مع الألوان، فالعتبة الأولى التي يمكن الولوج من خلالها الى مجموعة الشاعر خضر خميس "أبوح بشجني" هي لوحة الكتاب التي امتازت بتعدد ألوانها التي تشي للمتلقي بمسارات متعددة للتأويل، فتشظيات السواد التي تهرب من اللوحة على شكل سهام تؤكد الشجن المرافق للنص والذي يرافقه التعدد اللوني الباث من ألوان متعددة "الأحمر، الأصفر والأبيض" وكل بإيحاءاته الباثة للفرح والحزن.
فالأبيض مثلا يحمل أكثر من دلالة، فهو يمثل لون الأفراح وبنفس الوقت يمثل الحزن بوصفه لون الاكفان.
احتفلت المجموعة في متنها بأكثر من ثلاثين نصا نصفها تقريبا كانت مرثيات لرموز دينية، وأخرى ثورية أو إبداعية تمازجت فيها معرفية الشاعر وموسوعيته، فهو يكتب في كل ألوان الشعر كالنثر والتفعيلة والعمود. ونص "فضاءات النسيان" نقرأ: "وهنا خلاصة التجاعيد/ عندما ستسال/ كم بقي لديك من شهيق/ وأنت لا تجيد مصاحبة الهواء/ هنا/ خارطة شاخت لديها الالوان/ فتدفقت أنهارها بالهذيانات".
هنا نشاهد "المساحة الجمالية" بين القارئ والنص والتي تعتمد على مراوغة اللغة وتغريبها وابتعاد النص عن المألوف فيرى "هانز جاوز.. كلما اتسعت المسافة الجمالية تتطابق الآفاق" ويخرج النص عن دائرة التراتبية والصياغة الجاهزة، إذ لا يمكن للقراءة التي تتعامل مع الهيكل الخارجي للنص، وأن تنتج فعلا فاحصا يهتم بدلالاته وتفسيراته وتأويلاته، فالقراءة الشاقولية هي المعول عليها، أما القراءة الأفقية فتهتم بقشور النص ولا تغور كثيرا في حيثياته.
فنصوص خميس ليست من النوع المنغلق على نفسه بالرغم من مراوغته للغة وممارسة الفعل السيميائي في تناوله للفعل الكتابي، فهو ربما يستحضر القارئ الضمني الذي يرافقه في لحظة الكتابة، فنقرأ في نص "عطر لها" وهو يحاكي الأم: "أحب الناس لي.. ومن بالروح../ يا لهذا النشيد/ يسافر نبضا/ ويرسمني لوحة/ كل ألوانها شهقة الفجر/ أطرها ميسم من عبير".
فاختيار القارئ الضمني أو المضمر هو من يقوم بمهمة ملء الفجوات، لأن الكاتب يستحضره حين تحين لحظة الكتابة في النصوص التي تنتمي لفصيلة الانشاد أو للقصيدة الغنائية، بشكل عام تتراجع اللغة أحيانا وبشكل نسبي ويعتمد الايقاع كفعل يداعب احساس المتلقي ويأخذه بعيدا على التركيز على اللغة بمعيارها الفني. فنرى في النصوص النثرية مساحات أوسع واقدر وبمقادير أكبر في النتاج اللغوي، ومع ذلك نجد الكثير من الشعر المقفى والموزون فعلا لغويا مبهرا، نقرأ في نص "فوز" الذي كتب على غرار الموشحات بنفس الوزن والقافية للقصيدة المغنات (ياليل الصب متى غده/ أقيام الساعة موعده).. "من كان فيه الصبح مؤتلقا/ كل المدى لو شاء ينجزه/ أو شاء أن يسمو ضياء ضحى/ ما كان كل الليل يعجزه/ والعزم لا تلويه هائجة/ إن ظل ضوء النهج أركزه".
وهذا لا يعدا عيبا على الكاتب، وإنما هو تجديد يحمل في آفاقه لغة متجددة استطاع خميس من لي عنق اللغة بنتاج يشاكل ويختلف. وخلاصة القول إنه يمتلك موسوعية وتفردا جميلا في كل فنون الشعر، فضلا عن أنه يجتهد كثيرا ليجعل من الثراء اللوني فعلا صادما ومؤثرا في عملية التلقي، مما يجعله مشاكسا يدور في أفق اللغة ويتمرد عليها من أجل أن يذهب بالقارئ الى مديات تأويل متعدد ليتفاعل معه كي يكون مشاركا حقيقيا للنص.