لهفة

ثقافة 2024/07/09
...

 حسب الله يحيى


المسافة التي تقطعها سيارة الكوستر من الباب الشرقي إلى حي الشعب؛ تستغرق ساعة أو أكثر، فما بين صاعد ونازل من الركاب، وما بين سرعة السيارة على خط محمد القاسم السريع، وما بين الازدحام بين حي القاهرة وجسر الشعب؛ هناك أنفاس ثقيلة، وثرثرة على الهاتف النقال؛ وحرارة تموز الخانقة..

وهناك، هناك إلى جانبي وعلى تماس بكتفي، تجلس امرأة ترتدي السواد، تشد نظراتها إلى رأس شاب يجلس أمامها، بحيث لا ترى منه سوى كثافة شعره ورقبته وأذنيه.

المرأة.. قلقة، لا تحيد نظراتها خارج رأس الشاب.. تبدو في لهفة ورجاء مكتوم خشية أن يغادر الشاب مقعده، أو يغادر السيارة، وتمني نفسها بإلتفاتة تبدر منه يتوجه بها نحو النافذة.

الشاب يجلس من دون اكتراث لما حوله، ولا لما خلفه ولا لما بعده.. فما شأنه بالآخرين، وهو لا يروم سوى الوصول إلى مبتغاه..

المرأة.. تراقب بلهفة، وتتأمل رأس الشاب ورقبته وأذنيه.. تهفو إلى نظرة منه، إلى التفاتة قد يبادر بها.

حاولت أكثر من مرة، أن أتجرأ وأسألها:

- ما شأنك بهذا الشاب؟

لكن الخجل حال دون سؤالي، مثلما منعني الفضول أن اسأل كذلك.. فما شأني وما شأن المرأة بي، وما شأن المرأة بالشاب، وما شأن الشاب بها؟

أسئلة كثيرة كانت تراودني.. أسئلة اكتمها، واسئلة أحاول البوح بها.. والمرأة.. لا تشغلها شوارع ومحلات وسيارات تمر بها، مثلما لا يهمها الجو الساخن ولا رائحة العرق المنساب من الركاب ولا ثرثراتهم ولا الحديث بصوت عال يطلقه أحد الركاب، وهو يخاطب آخر في شؤون شتى.

لم يكن هناك شيء يشغل فضولها سوى هذا الرأس.. رأس مألوف لشاب في العشرين نسق شعره بشكل طبيعي، لا يثير انتباه أحد سوى هذه المرأة.

حاولت تنبيه الشاب، إلى أن امرأة خلفه، شديدة الاهتمام برأسه ورقبته وأذنيه..

لكنني لم أجد مسوغاً لهذا التنبيه.

اكتفيت بنظرات المرأة الملحة، اكتفيت بألحاحها الذي بات لصيقاً بالشاب.

كانت المرأة في عمر لا يقل عن الخمسين، فيما الشاب لا يزيد عن العشرين، الفرق شاسع بين عمر المرأة وعمر الشاب.. ولا يمكن أن يصطفي عمر الوقار للمرأة؛ وعمر الورد للشاب.

إذن هي نظرة تختلف عن الأعجاب، مثلما تختلف عن شك بالتآمر، وتختلف عن أية نظرة تتعلق بالتأمل والانتباه والبحث عن اسرار امومة محرومة من الأبناء.

وتوقفت عند كلمة (الأمومة) مثلما توقفت عند كلمة (الأبناء).

ولأنني إنشغلت بأمر المرأة؛ نسيت أن أغادر الحافلة في حي القاهرة، ولم أكن مستاء لهذا الانشغال ولا لهذا النسيان، وإنما وجدت نفسي أكثر حرصاً على معرفة تفاصيل ما أرى.. وأتساءل، هل سيغادر الشاب الحافلة قبل تلك المرأة وبالتالي سيجعلها في لهفة وحسرة، أم ستلحق به، أم ستغادر قبله، 

ويكون كل فضولي، فضولاً هامشياً باهتاً، لم يكن يعنيني لا من قريب ولا من بعيد، وما أنا سوى أحد الركاب الذين انتبهوا إلى نظرات ثابتة لمرأة تجلس بجواره، وشاب يجلس في المقعد الأمامي.

لم يكن هناك سر يمكن أن يحتمل بشأنهما، ولم يكن هناك أي معنى لفضولي كل هذا الوقت الذي مر سريعاً ونحن الثلاثة في مقاعدنا.

هّم الشاب بمغادرة الحافلة، وهمّت المرأة بالنهوض والاستعداد للمغادرة، لكن الشاب جلس، وترك مسافة للراكب الجالس بجواره للمغادرة، عندئذ اطمأنت المرأة وجلست هي الأخرى.

هذا المشهد أثار انتباهي، وشدني إلى معرفة نهايته..

اجتازت سيارة الكوستر شارع الشعب، وتوقفت الحافلة مراراً.. وما بين نازل وصاعد.. كانت نظراتي لا تغادر الانتباه إلى المرأة القلقة والملهوفة والمتأملة، والشاب الذي لا يدري حقيقة ما يجري وراءه..

حتى جاء صوت الشاب فجأة:

- نازل

وعلى الفور صاحت المرأة كذلك:

- نازل..

ولم أجد ضرورة لتكرار الكلمة، ذلك أن الحافلة ستتوقف، وليغادرها من يشاء..

غادر الشاب، ولحقت به المرأة، ولحقت بهما..

كان الشاب سريع الحركة، انتقل إلى الشارع المقابل، ودلف إلى زقاق.. ثم اختفى.

حاولت المرأة أن تناديه، أن تكون في أعقابه، كانت بها لهفة أن ترى وجهه، أن تلمسه، وتقبله، وتحتضنه إلى الأبد.. مثلما حاولت أنا كذلك أن اكتشف الحقيقة.. إن كانت هناك حقيقة احتملها وأرسمها دون سواي من الناس..

جلست المرأة عند منعطف الزقاق، كان الرصيف مثقلاً بالتراب وبلهيب الشمس.. وكنت حائراً بين امرأة كانت تلوح للشاب.. تناديه، تنادي من دون بحة صوت.. عجزت حنجرتها، جفت.

وقفت قريباً منها، أحسست بخيبتها وثقل ما آل إليه صوتها وأملها في رؤية الشاب والحديث معها..

فجأة سألتني:

- أين نحن يا أبني...؟

نحن في شارع الشعب.

- شارع الشعب.. شارع طويل ولا أعرف أين أنا الآن..

كنت أحس بجفاف فمها.. توسلتُ دكاناً قريباً.. علّه يسعف المرأة بالماء.. لم يتردد صاحب الدكان.. تلقفت المرأة قنينة الماء، وكنت أحسبها ظمأى، فإذا هي تأخذ رشفة صغيرة وبالكاد تقول:

- كان هو.. هو، ابني، لم يلتفت إلّي، ابني لم تأخذه الحرب إذن منذ عشرين سنة، لم تأخذه شابة أحبها، لم يأخذه شاغل.. إنه إبني.. امسكوه، قولوا له: هذه أمك تناديك.. أسألكم، لماذا لم يلتفت إلّي، إلى أمه؟

سألتني، ولأول مرة وجدت نفسي 

عاجزاً عن النطق، وأنني افتقد لساني، وافتقد فضولي.. احتضن المرأة وأبكي.. أبكي..