حرائق الأمس.. رماد اليوم

ثقافة 2024/07/09
...

 حسن السلمان 

    

حسناَ:

هذهِ لعبةٌ لم تبحْ بأسرارها بعدْ،

وتلك مراعٍ تتقاتل فيها الديدانُ على حبةِ قمحْ...

غرابٌ ينعقُ طوال الليلِ على قبّةِ ضريحٍ مهجورْ.

راهبةٌ تهتزُّ من الرغبةِ، والحصادُ نواقيسٌ خرساءْ.

رعاةٌ على كتفِ العالمِ بلا ناياتْ.

هواءٌ شرقي يحملُ روائحَ أسماكٍ ميتةٍ وبقايا صيادين.

خفافيشٌ تلطم نافذتي مساءً،

فأصحو على يومٍ يتقاسمهُ الباعةُ مع كهنةٍ بظلالٍ داكنةٍ، 

وصيارفةٍ بوجوهٍ لايظهر منها سوى العينين.

أحاولُ أن أتجملَ، 

فيفضحني تأريخٌ من الأجساد المصلوبة على أبواب الأسواق،

ويعيدني إلى قلب الغابة رأسٌ يهتز على رمح.

أحياناً تصعد حنجرتي للقلب،

فأخرج عن صمتي لتعيدني للصمتْ، 

صرخات نزيلاتٍ مصحاتٍ عقلية، 

وأدعيةُ توابين، لم يقترفوا سوى النقرِ على دفوف الأرواح. 

احاول أن أنسى فتنتصب أمامي أسفارُ الأمس،

هائلة مثل وحشٍ خرافي ينفث ناراً 

فأرتدُّ من الخوف على أعقابي، 

وأجد نفسي في محرقة الذكرى.  

أعلن من وراء الأسوار:

أنا لم أعصرْ خمراً،

ولا أتذكر أنَّ طائراً أكل شيئاً من رأسي.

أنا لم أغوِ المجنون لأسرقَ من فمهِ الحكمة،

ولم أترك ورائي القصرَ، وخوابي الخمرةِ، ولؤلؤة التاجِ، وأبحثُ عن أكذوبة الخلود.

لم تكن أمي مثيرةً للجدل،

ولم يشارك أبي في تفجير فقاعة الحقيقة.

أنا بشرٌ حملتهُ أمهُ في بيتٍ،

وتوحمتْ بهِ في بيتٍ آخر، 

وولدتهُ في أكثر من بيت.

هشٌّ كملاكٍ على  باب الله،

صبورٌ كصنوبرةٍ في قلب الصحراء،

وشّامٌ للأوقاتِ الضائعةِ على أجساد الموتى، 

فلماذا من بين الناس، قملتي بيضاء،

 وطرف ثوبي يجر وراءه عشرات الآثام؟ 

مثل كلبٍ مخلص، دائماً مايتبعني ظلي،

ظلي الذي لم أره قط، يتقدمني خطوة.

بعد اليوم، 

بعد ركوب الهضبةِ،

وإطلاق العصفور في يومٍ عاصف

لن أدعوكِ لنصطاد يوم السبت،

وأحدثكِ عن جبلٍ لايصل إليه الطوفان.

لن أطعمكِ السلوى

وأظللُ أطفالك بغمامٍ أخضر.

هيهات

لن تجدي بعد اليوم 

من يوسّع بيتكِ، 

ويطوي حصيرةَ صلاتكِ، 

ويعرض على عينيك شريط الأحلام. 

بعد اليوم،

لن تعلني في الأزقةِ والأسواق وأنت على وشك الطيران من البهجةِ قائلةً:

"جارتنا أتتْ حتى بوابة أمي

وسوف أركضُ إليها بلهفة

إنها أتتْ حتى بوابة أمي

وسوف أركض إليها بلهفة"(1)

ساعتها، سيكون الأوان قد فات، 

فلا فارس للحلم يعتلي صهوةَ مهرٍ أبيض    

ولاخبراً تحمله الجارة

وبوابة أمكِ يحاصرها الغرباء. 

وإذا مادخلتي الحظيرةَ لترويضِ خيول الجوع 

لن تجدي سوى قصبةٍ تصفرُ فيها الريح،

وطفلاً يتثاءب في حجرهِ أفعى.

هيهات

لن تنجحي في تدوير المغزل، 

ولن تمتدَّ يداكِ لسكين المطبخ،

ولن تجودَ جراركِ بقطرةِ زيتٍ،

ولن تنمو في حقلكِ بذرةُ كتّانٍ حتى.

إذن:ردّي على عينيكِ نقابَ الخيبةِ

فالبئر عميقٌ ولا أثر لخطى السيّارة.

التابوت ثقيلُ والأتباع بلا عهدٍ ووصايا.

الدنيا جنودٌ، بقمصانٍ صحراوية وبنادق،

وعميان يتبادلون المناديلَ الورقيةِ والشتائم. 

لاخاتون تمشط شعرها على ضفة الشط 

 ولاقمراً بسماء "الباب الشرقي" يبدد ليالي الوحشة.    

لاتمثال إلهٍ يتجول في ليل "الكرادة"،

ولا نغماً يتصاعد من مقهى "الأسطورة".

لابلبلاً في "سوق الغزل" يردُّ الروح،

ولاقارباً يعبر صوب "نبي الماء" لتحقيق أمنية امرأة مهجورة.

فقط، ثمة "بشرٌ لايعيشون ولايموتون"(2) 

فقط، ثمة خفافيش تتدلى من شرفاتِ بيوت "الحيدرخانة"،

جرذانٌ تمرح تحت تكايا عشاق الله،

ومابين "كهرمانة" ونصب الحرية، تشيخ قلوب الشعراء. 

إذن:

اغلقي فمَّ الكلبِ النابحِ فقد انتهتِ اللعبة،

اللعبةُ التي لم تبحْ بأسرارها بعدْ. 

الهوامش:

1 ـ ديوان الأساطير/ دار الساقي/ ط 1 / 1996 / قاسم الشواف.

2 ـ  دانتي.