الذات في مواجهة تغريب الواقع
رنا صباح خليل
ارتكز القاص انمار رحمة الله في مجموعته القصصية "خياط الارواح"على مكونات فنية وجمالية تدخل المتلقي إلى معنى مفتوح على جملة تأويلات ينتجها القارئ بنفسه وفقا لأفكاره ومرجعياته ووعيه وثقافته وذائقته الأدبية. وهي في مجملها تثبت إبداع القاص في التعبير عن الواقع وتجسيد همومه بعد الارتكاز على صيغ فنية أعادت تشكيله بصور مبنية على التقاطع بين الحلم والحقيقة. وعلى الرغم من أن القصص التي كتبت في هذه المجموعة تباينت في زمن ولادتها غير إنها عبرت عن رؤية متوحدة في مسار التقدم السردي للقاص.
وسنتناول المسار الإبداعي الذي شكل طابعاً لافتاً في هذه القصص، ذلك الطابع المتأرجح بين الواقع والمتخيل والسؤال هنا.. هل تنفصل هذه النصوص في بنيتها الفنية وهي تكشف عن نتاج وعي فكري وجمالي لكاتب اجهد نفسه للوصول إلى شيء جديد، خاصة انه يروم كسر الأنساق الثقافية في كتابته؟
هذا الجانب اهتم به في النقد العربي الحديث عبد الله الغذامي لتأسيس مفهومه عن "الانساق الثقافية"، من حيث هي "آليات الهيمنة، من خطط وقوانين وتعليمات، كالطبخة الجاهزة، التي تشبه ما يسمى بالبرامج في علم الحاسوب، ومهمتها هي التحكم بالسلوك"، ولكن الأدب الذي يلعب الدور الجمالي ليخفي كل تلك الانساق المضمرة في منظومته القيمية والثقافية التي نشأ فيها الأديب وتغذى عليها ونمت معه علم بذلك أم لم يعلم، هذا الأدب ذاته يستطيع خرق تلك الحجب وعبور كل تلك الحواجز ليقدم كسراً لتلك الانساق المهيمنة. لا شك أن لهذه النصوص استقلالها الذي يتحقق في كل قصة منها، الا أننا نتلمس أن هناك خيطا سرديا يمكن له أن يربط بعض قصصها، ويجعلها اقرب ما تكون إلى لون من السرد الذي يحمل سمة المتوالية السردية او الحلقة، وهو توصيف جديد أطلقه بعض النقاد في الولايات المتحدة الامريكية على المجموعات القصصية التي تمتلك مثل هذا التراسل بين قصصها، كما اننا نجد فيها كسرا للأنماط الثقافية عن طريق نصوص تحقق تناصا معينا مع الموروث الثقافي كما في قصة "شبح ايونا" التي تتناص مع قصة الاشقياء لتيشيخوف، وفي غيرها كسرا للنسق عن طريق الغرائبية كما في قصص "خياط الارواح، وليلة فرار الحرامي" وعن طريق الفنطازيا في "سوبر نوفا، و"شاهد ومشهود" وبالأنسنة في "عُقب، وسقوط حر، ووجوه وأحذية" وجميعها اتخذت من القصص القصيرة والقصيرة جدا مرافئ لها لاستدراج المتلقي وإدهاشه، ومن ثم سحبه نحو أعماق القص بصورة لا إرادية.
يسعى رحمة الله في قصتين لديه إلى كسر النسق الثقافي عن طريق المتوالية السردية في "يبحث عن وجه، وآه" والأولى ضمنها أربع قصص تشكل متواليات سردية، أي أنها تقوم على مبدأ التتابع ولكل واحدة منها عنوان مستقل وهي "انشطارية، وجه أول، وجه ثان، وجه ثالث" التي فيها تغدو المتوالية تقانة فنية تشتغل على بنية ما يتم سرده من قص مع مداومة على سلسلة أحداث يتم التباين في ترتيبها وجميعها تتوافر على ثيمة قص واحدة، لكنها تتوالى في كل قصة بشكل مختلف عن الأخرى.
وهذا ما ينتج عنه العقد والتحبيك، وكانت الناقدة باربرا هيرتشتاين سميث قد وقفت على فحوى المتوالية السردية في دراستها لقصة سندريلا، ووجدت أن ما ينتج عنها من فئات من الحكايات إنما هو بمثابة تنويعات لتلك القصة، وحدث الأمر نفسه مع قصة "يبحث عن وجهط انفة الذكر. إذ استثمر القاص عناوين متوالياته لرسم لوحة متكاملة تصف بحث الانسان عن الفرادة في مجتمع يتشابه ابنائه. أما في قصة "آه" فقد اشتغلت المتوالية السردية ضمن العناوين "ولادة، مدينة، خفة، عاصفة" بمساندة فنطازية لبث اوجاع الإنسان منذ نشأته إلى خوضه لعواصف حياته ومن ثم فنائه.
هناك قصص في المجموعة ترتبط بموضوعة الحرب المؤلمة، وفيها ينهض بفعل السرد بطل لا اسم له ولا ملامح في "معركة في غرفة" التي امتازت بلقطات إنسانية تجعل القارئ يتيقن أن من يعود من حرب مجنونة لا يعود إلا مهشماً.
ولم يغفل رحمة الله وهو يستكمل شروط قصصه أن يرسم لنا لوحات متكاملة تبدو كقطعة سردية اجتزأت من متن اكبر وذلك في قصة "مدينة الصراخ" التي استثمرها لوصف عالم يتماهى مع صنوف من ضحايا الوضع المأساوي الذي تنشئه الحروب والولاءات الخاسرة للقائد وامتلاءات عيد ميلاده وصورته والاستهانة بدماء الابرياء والأرامل وحتى ذوي الاحتياجات الخاصة، لتتحول القصة إلى بانوراما وصفية لا يغفلها الفكر الجمعي العراقي، ولا تختلف عنها قصة "الحمّام" التي ضمت حمولات نصية مكثفة وهي تدين الامتثال لأوامر الحاكم الجائرة بجعل الاستحمام يوما واحدا في الأسبوع وتمرير تلك الفكرة من قبل الناس البسطاء على أنها في مصلحتهم لتوفير المياه، وفيها اجتهد القاص لتكثيف الشعور الهائل بالظلم وتجاوز حقوق البشر ضمن مغامرة سردية كبيرة تتمثل فيها قدرة القاص على الامساك بتقنيات تحقق الانسجام مع قناعات القارئ وهي تبلور جوهر الحدث القصصي وهذا ما نجده ايضا من امتثال للحدث القصصي المرتبط بقضية الحرب في قصة "لأنني لم أكن موجودا" التي فيها وصفا عاليا للشحنات العاطفية المستثمرة سرديا في أم ثكلت بولديها
وزوجها.
استطاع القاص أن يخترق واقع الشخصية بالابتعاد عن القوانين التقليدية، فجاءت الشخصية محملة بمعانٍ متنوعة كالغموض والإثارة والوهم النفسي والندرة، وقد ساعدت تقنية الحكي المتتابع للحدث في فك "شيفرات" هذه النصوص وقادت القارئ إلى حلحلة اشكالية الظرف الغامض الذي كانت ازمته تتمثل في الهروب من الواقع المرير الذي استأصل ابتسامة النساء كما في قصة "دولاب الزوجة" وهي تصف حال الزوجة التي اتخذت من ثوب طفلة معلق في الدولاب وليدا لها لأنها لا تنجب، ووأد بشاشة الرجل الكبير في قصة "محلة العفاطين" واقتص من حلم الطفولة والشباب كما في قصص "جورينجو، نافذة وجيران، أشباح وأحاديث، وجدار وعبارات".
يمكننا القول إن بناء الشخصية على هذا الشكل اوصل مفهوما للقارئ أن هناك اشكالية محبوكة داخل النص جاء بها الكاتب لاختراق الواقع واعتصار امكاناته المتخفية، وهو بهذا صرح عن مضامين مسكوت عنها سياسيا واجتماعيا ترفض امتهان الفرد من الناحية الجسدية والنفسية، وما كان غذاء سرديا لهذا الجانب تنوعت مضامينه لتشمل حالات عامة يمكن لنا أن نلمسها ولا نعيرها اهتماما كما في قصة "العطر" التي تفصح ويفوح من سطورها رائحة الفعل الطيب بين الناس، أو قد نغض الطرف عنها كما في قصة "غير داخل في الخدمة" وقد تضمنت بوحا يشي بحال الفقراء عن طريق اتصال من رقم غير داخل في الخدمة الهاتفية، وقصة "أشباح وأحاديث" التي فندت عدم الترابط الأسري بسبب عدم التحدث بين أفراد الأسرة سوى عبر الهاتف. كما أن الامتهان الجسدي قد تمثل بأوج قساوته في قصة "وشم الوردة" بعد أن تنتقص كرامة الأمومة ويباع الجسد أمام الاطفال لأجل لقمة العيش. ونلحظ أن القاص يركز على تشخيص حالات نفسية كما في "خمائل الشك، ودولاب الزوجة" وأهتم بإظهار بعض الصفات غير المحببة عند الناس كما في قصة "غثيث وخنيث" وعالج فعل الشعوذة والدجل في أكثر من قصة منها "خياط الأرواح" التي كانت عنوانا للمجموعة القصصية. إن القاص كان ملتزما جدا بالحفاظ على صوته المهيمن حتى في أقصر عباراته وقصصه التي جاءت ترمز ولا تصرح أو تشير من بعيد باستخدام عنصر الدهشة والتركيز على تلخيص الأفكار مع غلبة الطابع الواقعي على القصص.