توني كراغ.. عينٌ تمسكُ بوجود الأشياء

ثقافة 2024/07/10
...

ترجمة: رامية منصور

عرف توني كراغ باستخدامه المواد المعاد تدويرها، لكن هذا لم يكن سوى جانب واحد من عملية بحثه التشكيلي لاستكشاف مدى الفاعلية الحيوية الكامنة في طبيعة المواد بجميع أنواعها، وهو الأمر الذي يتجلى في أغلب منحوتاته الكبيرة التي تفوق الوصف. إنه يخلق أشياء وأشكالا غير معتادة أو خاضعة لقالب هندسي معين أو مشابهة لشكل في الطبيعة، وهذا لا يعني أنها مجردة أو عبثية كما قد تبدو.

إن ما يشغل اهتمام كراغ ليس كيف تبدو الأشياء، بل لماذا تبدو هكذا.. وهو لا يسعى لتمثيل شيء ما أو إعادة إنتاج شيء مألوف لدينا بالفعل وأن يشارك في قراءة البنية الداخلية للمادة. إن الرؤية التشكيلية لأعماله التي تتعاطى مع كينونة المواد تحمل معطيات فلسفية عميقة منطلقة من القيم الفنية للظلال والسطوح التي تتكون منها وتحتويها.
“ هل سيكون الواقع الذي نراه أمامنا موجودا حينما نشيح ببصرنا عنه؟ “ يسأل كراغ بطريقة بلاغية تقريبًا، ثم يتوقف ويعود ليغني الفكرة قائلا: “ إن الفكر الإنساني هو بعد من أبعاد ما يجول في ذهني وأنا أنفذ منحوتاتي مازجا مع الفكر تجاربي مع المادة “.
يستغرق كراغ في التأمل والتفكير طويلاً قبل أن يصل للبناء التشكيلي لأي هيكل فني قبل الشروع بالعمل عليه. وبهذا المعنى، فإن منحوتاته لا تخضع لفوضوية أو عشوائية على الإطلاق، كما قد يصفها كثير من الناس.
إن عمارة العمل الفني لدى كراغ ليست عفوية على الإطلاق فهو يخضعه لأنظمة وقواعد رياضية، يختار منها منظومات تشكيلية توصله إلى الشكل النهائي الذي يرضي رؤيته الفنية. وهذا الشكل قد يكون صندوقا يبلغ طوله مترين، منحوتا من الخشب، وهو ذو طابع هندسي يحمل صورا بصرية مشوهة تتمتع بسيولة معقدة، ولكنها تبدو منظمة بما يكفي لتكون ممتعة من الناحية الجمالية، وإن كان ذلك لأسباب قد لا تتمكن من فهمها تمامًا. وقد يكون ذلك العمل النحتي مصنوعا بإحساس من البرونز البرتقالي اللامع، بحواف خشنة ومستديرة، أو يذهب لأشكال تشبه الرأس، مع مظهر جانبي يمكن تمييزه بوضوح من جانب، ومن الجانب الآخر يتموج البرونز مثل موجة من اللون الأسود اللامع، مما يحول الهيكل إلى شيء لا اسم له.
ربما يهدف كراغ من وراء هذه الأشكال النحتية إلى الإشارة لتاريخ النحت الذي كان منذ عصر النهضة وحتى نهاية القرن التاسع عشر مهتمًا في الغالب بإعادة إنتاج الشكل البشري.. يقول: “لقد أدى هذا إلى تحويل النحت إلى حرفة يدوية، أما  بالنسبة لي، فليس من المثير تقليد الأشياء من حولنا، لأن الطبيعة صنعت هذه الأشياء وصاغتها بشكل رائع للغاية.. ما هو الرائع في صنع رأس من الرخام بينما هذا الرأس خلق في الواقع وهو يحتوي عدة تريليونات من الخلايا العصبية وهو الهيكل الأكثر روعة وتعقيدًا في الكون؟ لماذا إذاً تصنعه من الرخام؟ أنا لا أفهم ذلك تمامًا.. أعتقد بأن هناك طرقًا أخرى للتعبير عن مفاهيمنا ورؤانا لهذه الأشياء العظيمة التعقيد والبراعة .”
إن منهج توني كراغ التجريبي المستمر لخلق أشكال المواد، والكيفية التي يتمكن بواسطتها من إثارة استجابات عاطفية من المتلقي عبر خلقه لأشكال جديدة من التعبير والتواصل معه، قد مهد الطريق لمسيرة فنية طويلة وناجحة.
عندما يتحدث عن عمله، تجد أن الكلمة التي يستخدمها باستمرار هي العاطفة. من الواضح أنه يحاول إثارة رد فعل عاطفي، فعلى الرغم من كون أعماله عبارة عن كائنات هندسية، لكنها في ذات الوقت تحمل بين طيات أشكالها المعقدة ما يكفي لجذب المتلقي إليها وتحقيق استجابة عاطفية. وهو يعتقد بأن هذا أمر مهم للغاية.. إن هذه الأهمية ترتبط في الغالب بحقيقة أن معظمنا لا يفكر كثيرًا في حقيقة وجوده.. يقول كراغ: “ إن أحد الأشياء الأكثر حزناً هو أننا لا ندرك مدى عظمة معجزة أن نكون موجودين، وأن نكون قادرين على التفكير والتأمل بعمق في خفاياها”.
أظن أنه بدلاً من محاولة فهم معنى منحوتات توني كراغ، يتوجب علينا ببساطة أن نجلس ونتأمل في ما يعنيه أن نكون على قيد الحياة. يقول رائد النحت الحديث هنري مور: “ليس هناك اعتزال للفنان؛ الفن هو أسلوب حياة، وبالتالي ليس هناك نهاية لفكر الفنان أو مدة انتهاء للعمل الفني.”.