الهوية والتضحية في عوالم متناقضة

ثقافة 2024/07/10
...

عايدة جاويش

إذا كان التصوير الفوتوغرافي “كما كان يعتقد الكوريون” يسرق روح الشخص الذي يتم تصويره, فإنَّ الكاتبة كيونغ سوك شين والمترجم محمد نجيب قد أعادا الروح لشخصيات رواية “راقصة البلاط “
كيونغ سوك شين كاتبة كوريّة معاصرة تعدّ واحدة من أبرز الأصوات في الأدب الكوري المعاصر. وُلدت في سنة 1963 في مدينة شيولونغ، وتخرجت في جامعة الفنون الجميلة في سول. بدأت مسيرتها الأدبية بنجاح كبير، إذ حصلت على العديد من الجوائز الأدبية المرموقة، تتميز رواياتها بالعمق والتعقيد والصدق في التعبير عن الحياة والمشاعر الإنسانية، إذ تسلط الضوء على مفهوم الهوية والثقافة والتاريخ بشكل متقن من خلال تنوع أصواتها الروائية وتنوع الشخصيات التي تخلقها، فهي تعتمد دائماً على خلفية تاريخية غنية في روايتها، وتركز على الجوانب المهمشة والقصص الإنسانية التي لا تحظى بالاهتمام الكافي في السجلات التاريخية.

راقصة البلاط تعدّ واحدة من روايات كيونغ سوك شين البارزة التي تأخذنا في رحلة عبر تاريخ كوريا التي كانت محط جذب للقوى الإقليمية والعالمية، إذ تصاعدت التوترات والصراعات بين الصين واليابان بشأن هذه البقعة الستراتيجية. وعبر صفحات الرواية استطاعت الكاتبة أن تقدم صورة شاملة لفترة قبل الاحتلال الياباني لكوريا، مستعرضة العديد من الجوانب الحياتية والثقافية والاجتماعية للناس في ذلك الوقت وهنا تبرز كيونغ سوك شين بموهبتها في رسم شخصيات معقدة ومتنوعة تعكس تجارب ومشاعر الفرد في مواجهة التحولات التاريخية والثقافية.

ركزت الكاتبة في الجزء الأول للرواية على طفولة راقصة البلاط اليتيمة, المجهولة الاسم, الجميلة المحبة للقراءة التي تعلمت اللغة الفرنسية على يد الأب بلانك “المبشر الكاثوليكي”, وكيفية دخولها للبلاط لتغدو من أكثر السيدات المحبوبات لدى الملكة حيث قرأت لها العديد من الروايات الفرنسية وترجمتها لها, وأتاحت الكاتبة للقراء أيضاً التعرف على التفاصيل الدقيقة للكوريين.. الملابس، الطعام وفنون الطبخ الكورية, التقاليد والأخلاق النموذجية للمجتمع الكوري التي شكلت هويته الشرقية.

 تلك الرؤية الشاعرية والمدهشة للطفلة “جين” التي تمثل كوريا أضفت على القصة عمقًا وجمالًا لا يُضاهى. يلامس القلوب ويترك أثرًا عميقًا في ذاكرة القارئ.

عندما رأى فيكتور المندوب الفرنسي “جامع الأعمال الفنية” لدى كوريا راقصة البلاط جين كان كأنه رأى قطعة أثرية من الشرق وأراد الاحتفاظ بها في بلده فرنسا لذلك طلبها من الملك مباشرة, فكل النساء في القصر تخص الملك وحده ولا يمكن لأي امرأة منهن أن تكون لها حياة خارج البلاط دون إذن الملك.

 كان من الصعب على الملكة قبول طلب فيكتور لكنها وافقت لأنَّ العراف أبلغها بأنَّ جين الراقصة الجميلة الذكية قد تسرق قلب الملك.

“يشعر المصاب بالأرق بنفس الألم الذي يشعر به الشخص الذي ينتظر شخصًا لا يأتي أبدًا”

في الجزء الثاني للرواية تنتقل راقصة البلاط مع السفير الفرنسي إلى فرنسا لتكون أول امرأة كورية تتواصل مع الثقافة الفرنسية ليبدأ صراع الانتماء عند جين والبحث عن هويتها في باريس فالتباين الواضح بين الثقافتين الكورية والفرنسية جعلها تشعر بالضياع والغربة.

في باريس ستتعرف المرأة جين على ثقافة العصر الجميل وستتعرف على الكاتب الفرنسي “غي دو موباسان” الذي قرأت كتبه وأحببتها عندما كانت في كوريا.

تنتقل كيونغ سوك شين ببراعة بين الرواة ووجهات النظر للشخصيات المختلفة في الرواية، وتظهر مهارتها في كتابة الرسائل بشكل واقعي ومؤثر، سواء كانت رسائل بين فيكتور دي بلانس والخارجية الفرنسية أثناء إقامته في كوريا، أو بين راقصة البلاط والملكة أثناء تواجد جين في فرنسا. هذا التنقل السلس يضفي واقعية كبيرة على الرواية ويجعل القارئ يشعر وكأنه يعيش تلك اللحظات مع الشخصيات الروائية.

وكذلك تجسد شخصية القس “بلانك” وبناء دار الأيتام وقصص الاضطهاد التي تعرض لها الكاثوليك في كوريا جوانب من التاريخ الحقيقي والتحديات التي كانت تواجه المجتمع في ذلك الوقت.

“في بعض الأحيان، لا يحمي الكلب المنزل، بل يحمي وحدة الشخص.”

فيكتور خذلها بعد استقرارهم في باريس ولم يف بوعده لها هو الذي وعدها بزفاف كبير ووعدها بأن يأخذها إلى مسقط رأسه ويعرفها على أمه التي رفضتها ورفضت فكرة الزواج بكورية لأنَّ هذا الزواج سيفقده لقبه النبيل وسيحد من عمله الدبلوماسي.

وهنا تركز الكاتبة على كيفية نظرة الغرب إلى الشعوب غير الغربية والعكس صحيح فكوريا كانت تخاف من الانفتاح على العالم الخارجي.

“ألم تقل إنَّ أرفع الفضائل المحترمة في هذه الجمهورية هي الحرية والمساواة؟ كيف يمكن أن تكون محترمة عندما تمارس التمييز والتحديق بشكل كبير تجاه أولئك الذين يختلفون؟.”

بعد كل هذا الخذلان الذي شعرت به جين أحسّت بالإحباط الشديد الذي قادها إلى الكآبة الحادة، وأصبحت تمشي في نومها وتخرج خارج المنزل وهي فاقدة للوعي, وصف لها الطبيب العودة إلى كوريا كعلاج.

عاشت راقصة البلاط جين في باريس على غرار قرية الأفارقة المعروضة في حديقة عامة “لتسلية الفرنسيين فقط”.

- متى شعرت بالوحدة في فرنسا؟

- عندما أردت أن أفهم من أنا

- حقاً ومن أنت؟

- لا أعرف أنا مثل الغبار مثل العشب, مثل السحابة في النهاية لا أحد.

النص يتحدث عن حادثة تاريخية في الساعات الأولى من صباح الثامن من أكتوبر عام ١٨٩٥، حيث اقتحمت مجموعة من اليابانيين قصر “غيونغجو كجونج” في سول، بهدف اغتيال الملكة زوجة ملك مملكة “جوسون” التي كانت تعتبر خطرًا على مخططات التوسع اليابانية قتلوها بوحشية وألقوا جثتها في الغابة وأحرقوها. تلك الأحداث تمثل جزءًا من الأحداث التاريخية التي تم التطرق إليها في رواية “راقصة البلاط”، رواية “راقصة البلاط” تتناول هذه الفترة التاريخية بشكل مشوق، من خلال تقديم شخصيات مستوحاة من الواقع مثل الملكة والموفد الفرنسي فيكتور كولين دي بلانسي.