دون كيخوته قصيدة لأكثر الفرسان حبًا للكتب، وانتصاراً للحلم

ثقافة 2024/07/10
...

ترجمة: كامل عويد العامري

هل استغرق ميغويل دي سيرفانتيس ساافيدرا سنوات طويلة من الأسر، من زنزانات الجزائر إلى زنزانات إشبيلية، ليستلهم روايته دون كيخوته، أول رواية حديثة، وهي مأثرة الحرية وهيام العقل؟
هل هذا الكتاب الضخم المؤلف من ألف صفحة، المميز بختم الفكر النبيل، سيعيد الأمل والمعنويات لأكثر البشر تشاؤماً بيننا؟ إنها ملحمة البطل الحقيقية والمزيفة، قصيدة لأكثر الفرسان حباً للكتب، وانتصاراً للحلم.
طُبعت رواية “دون كيخوتي دي لا مانتشا” في جزأين، بفارق عشر سنوات، في 1605 و1615. منذ المقدمة، يضع القارئ في أجواء، بين الخيال والسخرية، وتمزج بين اثنين من الدوافع الأساسية للعمل البشري هما: الرغبة والطموح.


“في إحدى قرى لامانشا، ، عاش رجل نبيل من أولئك النبلاء الذين يملكون رمحاً في الحظيرة، ودرعاً عتيقاً، وحصاناً هزيلاً، وكلب صيد سريع”. يتفتح العمل على شخصية مضادة للأبطال، وهي مرآة مشوهة للشخصيات الكبرى في الأدب الهوميري. هذا الرجل، الذي يعاني من فرط الذاكرة، لا يمكنه التصرف إلا وفقاً للأحداث الروائية السابقة. وكونه نبيلاً مفلساً، قرأ الكثير، واستمع إلى العديد من أناشيد ملاحم البطولة، فاستوعبها لدرجة أنه منح نفسه هوية جديدة. ولأنه كان يتحدى كل منطق، فقد كان يرى في نفسه فارساً تائهاً، على غرار العظيم “أماديس الغالي”، البطل الشعبي في إسبانيا على وجه الخصوص في القرن السادس عشر، “الجميل الكئيب” و”الفارس ذو السيف الأخضر”.
يمنح الرجل نفسه اسماً، دون كيخوته، ولجواده اسم، روسينانتي، ويتخذ دروعاً رخيصة الثمن، وأميرة، اسمها دولسينيا، وهي فلاحة كما ينبغي. “بعد أن فقد حكمه تماماً، وقع في أغرب فكرة تطرأ على أي مجنون في العالم، وهي أنه من الضروري للغاية، من أجل زيادة شرفه وخدمة الجمهورية، أن يصبح فارساً متجولًا، وأن يذهب في جميع أنحاء العالم مع أسلحته وحصانه للبحث عن المغامرات “. وقد أكمل هذا الطاقم الرائع مرافِقٌ هو سانشو بانزا الشهير، “عامل الحراثة جاره، وهو رجل طيب، وفلاح فقير”.
وبصحبة هذا الرفيق في الشقاء الذي وعده بالارتقاء الاجتماعي، ينطلق دون كيخوته في ألف مغامرة، انطلاقاً من اقتحام طواحين الهواء العظيمة، هؤلاء الأعداء الخياليين الذين أنجبتهم هلوساته العديدة.
ويواجه الصديقان العديد من اللقاءات التي يحولها خيال الفارس إلى حلقات ملحمية: الراعية مارسيلا، وسائق البغال المفتون بابنة سيد القصر، والحلاق سيئ الحظ، ومجموعة من الرجال الذين يُساقون إلى القلاع. ينطلق دون كيخوته، اليائس من أجل العدالة، لتحريرهم. لكن كمكافأة له، يتعرض للضرب والسرقة أثناء نومه على يد أحدهم، وهو جينيس دي باسامونت، الذي يأخذ حتى حمار سانشو المسكين. ولكن هذا لا يهم، طالما أن القلب يتحرك بمثال الخير. لقد أخطأ كيخوته. لقد فشل. لكنه عمل من أجل أنبل القضايا: الحرية.
يجد دون كيخوته نفسه في وقت لاحق محبوساً. وهو يخشى أن يُعاد إلى قريته، هذا المكان المغلق الذي لا يسمح له بالعيش بحرية، ولا يسمح له برؤية العالم على نحو أوسع. وهنا ينتهي الجزء الأول من الرواية لكن الراوي يعد بمغامرات جديدة.
ثم يبدأ الجزء الثاني بتحرر دون كيخوته وعودته إلى صوابه، على الأقل من حيث المظهر. غير أن هناك قصة جديدة يرويها له الحلاق، قصة” مجنون إشبيلية“، وهي ليست سوى قصته هو، ليعود دون كيخوته الذي يشعر بالإهانة إلى صهوة جواده مستعداً للرد على أي شيء قد يسيء إلى شرفه.
سيؤدي وصول أحد المعجبين، وهو العازب سامسون كاراسكو، إلى تعجيل الأمور. يخبر هذا التلميذ الشاب سانشو بانزا أنه أصبح هو وأستاذه شخصيتين قائمتين بذاتهما! وتكشف الرواية عن وجود كتاب بعنوان” الفارس العبقري دون كيخوته دي لامانشا“، الذي ينسب تأليفه إلى المؤرخ “سيدي حامد بن الجيلي”. الذي يروي مآثر التلميذين. وفي حركة بارعة، جعل المؤلف الأبطال أنفسهم يعيدون قراءة الجزء الأول من العمل. وهنا يقع القارئ في ذهول حيث فيه تسخر شخصيات الرواية أو تشعر بالاستياء من عدم دقة سردهم داحل السرد.
ومع ذلك، لا شيء يمنع المغامرين، اللذين لديهما هدف واحد فقط، وهو الوصول إلى إل توبوسو، والعثور على دولسينيا هناك. تقودهما هذه المهمة، التي لا جدوى منها أيضاً، إلى الطريق المؤدي إلى سرقسطة لمقابلة دوقة غريبة وزوجها الذي يدعوهما إلى قلعتهما. وفي مواجهة الجنون الواضح لضيفهم، أخذ المضيفان الأمر على محمل الجد. وكما يقول ميلان كونديرا في رواية “الحب المضحك”: “لنفترض أنك قابلت رجلاً مجنوناً يدعي أنه سمكة وكلنا أسماك. هل ستجادله؟ هل ستخلع ملابسك أمامه لتريه أنك لا تملك زعانف؟ هل ستخبره وجهاً لوجه بما تعتقده؟ [...] إذا أصررت على إخباره بالحقيقة، فهذا يعني أنك تأخذه على محمل الجد. وأن تأخذ شيئًا غير جاد بجدية يعني أنك تفقد جديتك.  أما أنا، فيجب أن أكذب حتى لا آخذ الأشخاص المجانين على محمل الجد ولا أصبح أنا مجنوناً”. لقد مثلا مسرحية كاملة، مع خدمهما كممثلين: لقد خدع كيخوته البائس، وسانشو أيضاً، الذي تظاهر الزوجان بتعيينه حاكماً لجزيرة - حلمه! وبعد حوالي عشرة أيام من إدارة هذه القطعة الصغيرة من الأرض في وسط البحار، يعود سانشو إلى سيده. ليس كل شخص قادر على أن يكون روبنسون! من جانبه، سيتعين على دون كيخوته أن يصم أذنيه عن مغازلة سيدة شابة هي ألتيسيدور الجميلة، التي ليست سوى خادمة، ممثلة تأتمر بتعليمات المضيفين.
وبعد أن هربا من شراك المظاهر الخادعة، اتجه كل من كيخوته وسانشو نحو برشلونة. وهنا تعرضت سذاجة الفارس للسخرية مرة أخرى. سيستمتع المضيف الجديد، أنطونيو مورينو، بقيادته حول المدينة «ليس على ظهر جواده روسينانتي، بل على بغل كبير ذي مشية متساوية ومدربة جيداً. ووُضع عليه الرداء، وعلى كتفيه، من دون أن يلاحظ ذلك، وخيطت ورقة مكتوب عليها بحروف كبيرة: هذا هو دون كيخوته دي لا مانتشا”.
بعد ذلك يُدعى دون كيخوته في تحد لمبارزة سامسون كاراسكو، الذي كان يتنكر بقناع فارس القمر الأبيض. بعد هزيمته، غرق بطلنا المضاد في حالة من الكآبة وقرر أن يسلك طريق العودة مع سانشو. وكانت لديه خطة. فعند وصوله إلى قريته الأصلية، اختار لنفسه هوية جديدة، مثل أخيل الذي انتصر في حرب طروادة لكنه فضّل حياة الراعي. “سأشتري الأغنام وكل ما هو ضروري لممارسة الرعي. سيسمونني الراعي [القس] كيخوتين، وأنت الراعي [القس] بانسينو، وسنذهب عبر هذه الجبال والغابات والمروج”.
تقوده خطى بطلينا مرة أخيرة إلى قلعة الدوق والدوقة اللذين خططا لحفلة تنكرية شريرة أخيرة. وكان وهو طريح الفراش لأيام متواصلة، لا شيء يبعث في نفس كيخوته الحماس أو الرغبة. بعد أن تيقن أنه لن يرى دولسينيا مرة أخرى، وتخلى هيدالغو ألونسو كيخانو عن كتب الفروسية وكتب وصيته واعترف. لقد ترك وراءه حياة خالية من الأوهام التي جعلتها جديرة بالاهتمام. و”إن عاش جاهلاً مات حكيماً”.
الهروب الأدبي
مؤلف “دون كيخوته” ليس أقل فرادة من شخصيته. فكلاهما يكاد يندمج مع الآخر – كما يقترح الراوي: «لقد وُلِد دون كيخوته من أجلي وحدي، وأنا وُلِدت من أجله. لقد عرف كيف يتصرف، وأنا عرفت كيف أكتب. في النهاية، أنا وهو لسنا سوى شيء واحد”.
في عام 1605، وهو العام الذي ظهر فيه الجزء الأول، كان في الثامنة والخمسين من عمره. ويأتي هذا العمل المتأخر بعد سلسلة طويلة من الأحداث. ففي عام 1569، لجأ الروائي، الذي يُشك في سيرته الذاتية، والتي تتخللها فجوات ومناطق غامضة، إلى روما لإنقاذ يده اليمنى التي حُكم عليه بقطعها بسبب جرحه لرجل - وكان قد فقد استخدام يده اليسرى عام 1571 في معركة ليبانتو [وهي معركة بحرية وقعت في 7 أكتوبر- 1571 بين العثمانيين وتحالف أوروبي، انتهت بهزيمة العثمانيين]. وليس من قبيل المصادفة، كما يعتقد جان ريموند فانلو، أن كيخوته نشأ في منطقة لا مانشا - وهو مصطلح قريب من الكلمة الإسبانية manco، أي “بذراع واحدة”، بقدر ما هو قريب من كلمة manchado، أي “ملطخ”، في ذاكرة المنطقة التي كانت تعاني آنذاك من التلوث الذي سببه الموريسكيون، الإسبان الذين اعتنقوا الكاثوليكية، وقد كان العصر الذهبي الذي كتب فيه سرفانتس عصر نفوذ ثقافي قوي وانحطاط سياسي وعسكري ومالي في آن واحد. وأصبح خيال بطله الذي لا حدود له وسيلة للمؤلف لاستعادة عظمة المملكة المفقودة، والتخلص من ظروف عصره المظلمة.
هل كانتْ ظلمة سجون الجزائر أم قتامة زنازين إشبيلية هي من ألهمت ميغويل دي ثرْفانتِس بِإبداع روايته الخالدة دون كيخوتي؟ تشيرُ مقدمة الرواية إلى أنّ فكرة هذا العمل العظيم، الذي يُمكن قراءته كصرخةٍ من أجل الحرية، قد وُلِدَتْ خلفَ جدران السجن. عاشَ ثرْفانتِس حياةً حافلةً بالمغامرات، حيثُ تنقّلَ بين مهنٍ مُتنوّعة. فقد كان جندياً مغامراً، ومُوَكّلَاً بإمدادات الطعام للملك فيليب الثاني خلال الاستعدادات لهجوم الأسطول الإسبانيّ الضخم (الآرمادا) على إنجلترا، كما عملَ في جباية الضرائب بمنطقة غرناطة. لم تقتصرْ حياةُ ثرْفانتِس على المغامرات فقط، بل عانى أيضاً من فتراتٍ طويلةٍ قضاها في السجن، خاصةً في مدينة إشبيلية، حيثُ سُجِنَ في عامَيْ 1597 و1605. كما أنه تعرّضَ للتّكفيرِ من قِبل الكنيسة الكاثوليكية لِارتكابهِ بعضَ المخالفات، مثل: سوء السلوك، وتراكم الديون، واختلاس أموال الكنيسة، وبيع القمح بطريقةٍ غير قانونية.
تستقي مغامرات دون كيخوتي، ذات الطابع الهزلي، إلهامها من الواقع. ويلاحظ مارك فومارولي أنّ ثرْفانتِس “يتقبلُ مبدأً للشرعيةِ مُحتملًا للقصصِ المُسلّية، لكنّه يخضعُها للقوانينِ الصارمةِ للمعقوليةِ والمنفعةِ الأخلاقيةِ.” تفتحُ الروايةُ آفاقًا جديدةً كليًّا على علاقاتِ الأدبِ والواقعِ، في دوارٍ من قصورِ المرايا، كما لو أنّ “المرآةَ المُتنقّلةَ” حول الواقعِ، التي اقترحَ ستندالُ أن تكونَ هي صورةَ الروايةِ نفسها، تعكسُ انعكاساً قد دفعتهُ بالفعلِ عدساتٌ أخرى، في ذهابٍ وإيابٍ مُذهلٍ وخرافيٍّ.
تتغذّى حماقاتُ دون كيخوتي الرومانسية بشكلٍ أساسيٍّ من مرضِ قرنٍ آفل. ينتقدُ الفارسُ المتجول، أمام خادمهِ المذهول، “الأوقاتِ البغيضةَ التي نعيشُها”. ... “اعلم، يا سانشو، أنّ السماءَ قد خلقتْني في هذا العصرِ الحديديّ لإعادةِ إحياءِ ذلك العصرِ الذي يُسمّى العصرَ الذهبيّ”. والعصر الحديديّ” هو زمنُ الاغترابِ وضيقِ الأفقِ وغيابِ المثلِ العليا وفقدانِ المعالمِ والسقوطِ في النسبيةِ. أمّا “العصرُ الذهبيّ” فهو زمنُ القيمِ المُطلقةِ، وزمنُ الثقةِ، والإخلاصِ، والحريةِ. أنّ إحدى الرسائلِ العظيمةِ لِروايةِ دون كيخوتي هي أنّ كلّ قرنٍ لهُ نصيبهُ من الحديدِ ونصيبهُ من الذهبِ، تاركًا مسؤوليةَ الاختيارِ لساكِنيهِ. في روايته الخالدة دون كيخوتي، يُمارسُ ثرْفانتِس لعبةَ التّقليدِ المُبدعِ، حيثُ يُحاكي بِذكاءٍ الرواياتِ الشائعةَ في العصر الذهبي الإسبانيّ. لكنّه لا يكتفي بِالسخريةِ من رواياتِ الفروسية، بل يتجاوزُ ذلك لِطرحِ أسئلةٍ جوهريةٍ حولَ الأدبِ ويُثبتُ كونهُ مُبتكراً فذًّا. ويكشفُ عن نواياهِ بِذكاءٍ في المقدمةِ: “احرصْ أيضاً على أنْ تجعل الكئيب يتأثر بقراءة قصتك فيضحك، وأنْ يزدادَ ضحكُ الضاحكِ، وأنْ يُثنيَ عليها الحكيمُ أيضاً”. إن علاجاً من العبوديةِ أفضلَ من الاستسلامِ أو الهروبِ.
إنّ دون كيخوتي، كما قال ميشيل فوكو، هو “أول عملٍ أدبيٍّ للحداثة، منذ أن قطعت اللغة علاقتها القديمة بالأشياء، لِتدخلَ في تلكَ السيادةِ الانفراديةِ التي لن تظهرَ من جديدٍ، في كينونتها المُفاجئةِ، إلّا بعدَ أنْ تُصبحَ أدباً”. إن كبارُ أساتذةِ الروايةِ الحديثةِ، مثل ديفو وفلوبير وكوندرا، يحتفلون بهِا ككشفٍ وإنجازٍ عظيمٍ. وتُجسّدُ إيما بوفاري، في روايةِ “مدام بوفاري” لِفلوبير، بَهْجَةَ الأحلامِ المُحبطةِ التي تُزيّنُ الواقعَ الكئيبَ بألوانِ الروايةِ، ممّا يجعلها الوريثة الحزينةَ لدون كيخوتي. فبينما يجولُ فارسُ المانشَا في العالمِ، تحبس بطلةُ فلوبير نفسها في مدينة يونيفيل الوهمية، وتُعاني من الوجودِ بدلاً من تشكيلهِ.
اختارُ دون كيخوتي، كرجلٍ فريدٍ وحساسٍ، أنْ يكونَ حراً. متحرراً من سطحيّةِ الواقعِ، ومتحرراً من الطبقاتِ والأنسابِ، حراً من الطموحِ إلى ما هو أكبرُ منهُ، حراً في تحرير نفسه من خلالِ القراءةِ. ويُصيغُ فارسُنا الخيارَ المُتعمدَ للخيالِ، وليسَ مجنوناً كما يبدو. إنّ إرادتهُ في هذيانهِ قويةٌ، ووضوحُهُ مذهلٌ. “باستثناءِ الهراءِ الذي يتكلّمُ بهِ عنْ كلّ ما يتعلّقُ بِجنونهِ، فإنّهُ يُظهرُ عقلاً سليماً في حديثهِ، ويعبر عن نفسه بوضوح وفطنة، وطالما لا يتعلّقُ الأمرُ بالفروسيةِ، لا يمكنُ لأحدٍ أنْ يعتقدَ أنّهُ قد فقدَ عقلهِ، فهو يُكَرّسُ نفسهُ لِلإيمانِ بأوهامهِ، والتحكّمُ في اندفاعاتهِ. “بمعنى الكلمةِ،” يقولُ عنْ دولسينيا، “أتخيّلُ أنّ ما أقولهُ هو كما أقولهُ، لا أكثرَ ولا أقلّ؛ وأراها في روحي كما تريدُهُا رغبتي”.
إذا كان حراً ومبدعاً بهذه الطريقة، فذلك لأنه قارئ. لأن هذا ما تعنيه القراءة. إنها تعني المخاطرة كما تعني القدرة على الاندهاش والتطور والبناء وتغيير وجهة النظر واختراع الذات. ينتقل كيخوته في لمح البصر من دفء الموقد إلى قسوة الطريق، من رواية المغامرة إلى الرعوية، من المحاكاة الساخرة إلى تعدد الأصوات، فيشعل كيخوته ويمارس حسه النقدي: هل نحن متأكدون حقاً من أننا نفهم ما أمامنا؟ هل الواقع كله واحد؟ الشخص الذي يبدو مجنوناً هو في الواقع أعقل من الجميع.
 ماذا يجب أن نفعل بخيالنا؟ بالطريقة نفسها التي يقول بها السرياليون، أو يظهرون، بخطوة جانبية وغريبة خارجة عن المركز ، يُشير لنا دون كيخوتة إلى طريق المعرفة من خلال هلوساته العنيدة. عليه أن يعيش، وبالتالي أن يتخيّل، من أجل الهروب من واقع يُحاصره مثل السجن، سجن مثل سلالم جورجيو دي شيريكو التي لا نهاية لها. وكأن رجال رينيه ماغريت [René Magritte (1898-1967) الرسام البلجيكي الأبرز من بين فناني السريالية.] ذوو رؤوس الحمام تشبه النجوم التي تتلألأ في روح كيخوتة. تجسد هذه الكائنات المنهكة، والمخيفة رحلة الأحلام القوية. ومثلما حطّم بطلنا واقعاً مطوّقاً، فإن أندريه بريتون وتريستان تزارا وماكس إرنست ومارسيل دوشامب قد حطّموا افتقار التمثيلات والتأويلات، وكل منهم يبحث عن الكنز نفسه: تشويه شعري للمظاهر يكشف عن جوهر الأشياء، عن حقيقتها. وفي هذا السعي، حتى لو كان محكوماً عليه بسوء الفهم والازدراء من الآخرين، يكتسب الشعراء حريتهم المؤلمة والثمينة.
لا يعدّ هذه الخيال خيالاً انعزالياً بأي حال من الأحوال، بل تواصلاً وجزءاً اجتماعياً مرتبطاً بالآخرين من خلال ما أسماه رينيه جيرار “الرغبة المحاكية”. كل ما يرغب فيه دون كيخوتة وسانتشو بانزا مستوحى من الآخرين، سواء كانوا من لحم ودم أو من ورق. إذا ذهب دون كيخوته في مغامرة، فهذا ليكون مثل أماديس دي جاولا [رواية إسبانية من روائع أدب القرون الوسطى الخيالية ومن أوائل وأشهر كتب الفروسية التي تناولت حياة الفروسية]. إذا كان سانتشو بانزا يحلم بمشاريع عظيمة، فذلك لأن دون كيخوته هو من ألهمه. لقد اكتشف جيرار ذلك جيداً: “منذ أن عاش مع دون كيخوتة، يحلم بـ “جزيرة” يكون حاكماً لها، يريد لقب دوقة لابنته. هذه الرغبات لم تأتِ بشكل عفوي إلى الرجل البسيط مثل سانشو. لقد اقترحها عليه دون كيخوته”.
الخيال هو أيضاً فعل تمرد. فدون كيخوته، المسّاح الدقيق للخيال، هو مثير للمشكلات. فهو يزعزع الثوابت واليقينيات”، كما تقول الناقدة الأدبية مارتا روبير. وهو يفعل ذلك من دون أن يثير تمرداً علنياً، من خلال ممارسة تفسير مستمر للعالم الذي يضع الواقع موضع تساؤل وهو في حد ذاته مشروع تخريبي. إن تمرد كيخوته ليس سياسياً بقدر ما هو تمرد وجودي يتحدى الحالة التي يتحول إليها الإنسان بسبب نقص الطاقة أو الطموح. ووحدها قوة المخيلة هي التي تسمح للفرد أن يحلم، وأن يبني نفسه، أن يبرز نفسه، بألف طريقة، على حد تعبير لويجي بيرانديلو، الذي لخص هذا التعدد في الوجود في ست شخصيات في مسرحية “ست شخصيات تبحث عن مؤلف”. “في هذه الوعي، يكمن جوهر الدراما بالنسبة لي، يا سيدي: في هذا الوعي كل واحد منا - كما ترى - يعتقد أنه “واحد”، بينما هو في الحقيقة ليس كذلك: إنه “مئة”، يا سيدي، إنه “ألف”، وفقاً لكل احتمالات الوجود التي في داخلنا: إنه “واحد فقط” مع هذا الواحد، “واحد فقط” مع ذاك - وهذا “الواحد” المتعدد مختلف عن بعضه البعض بقدر ما يمكن!
لقد رأى فوكو في “دون كيخوته” إيحاءً محرجاً: “المجنون” هو أيضاً من يقول الحقيقة. لنتذكر التراجيديات الشكسبيرية التي يمتلك فيها المجنون الحكمة التي تستعصي على الأقوياء، المسجونين في براثن الطموح والعاطفة. ومن هذا الجنون يستخلص لنا دون كيخوته أعظم ما في الإنسان: شجاعة الفرد القادر على اختيار مصيره رغم العوائق والتناقضات. ومن هذا الجنون يستخلص لنا دون كيخوته أعظم ما في الإنسان: شجاعة الفرد القادر على اختيار مصيره رغم العوائق والتناقضات.
من التفسيرات التي أفرزتها هذه الرواية، كثيراً ما قُرئت تحفة سرفانتس كعمل اجتماعي يقسم المجتمع إلى طبقات متعددة تذوب في بوتقة الرواية، من السائس إلى الفارس، من الفلاحة إلى الدوقة، ومن العبد في السفينة إلى التاجر، ومن الخادم إلى السيد. لكن الفارس المتجول يتجاوز هذه التقسيمات، ولا يرى في الإنسان سوى الإنسان. ألم يقل: “يمكن أن يقال عن الفروسية المتجولة كما يقال عن الحب، إنها تجعلنا جميعاً متساوين”؟
لنستمع إليه أخيراً وهو يأمر الوالي بإطلاق سراح المرشحين للجلد، مهما كانوا: “ليس من العدل أن ننزل مرتبة من خلقهم الله والطبيعة أحراراً إلى مرتبة العبيد. ليس من الصواب أن يصبح الرجال الشرفاء جلادين لرجال آخرين، من دون أي سبب.” وكان يحث سانشو في جميع الظروف: “ارفع رأسك عالياً”.
هكذا هو دون كيخوته: رافضاً اللامبالاة وضيق الأفق والاستسلام، يصر، “ للوصول إلى النجم الذي لا يمكن الوصول إليه”. نأمل أن تكون أزمنتنا المحبطة دافئة بهذه الشعلة.