التواصل الخلاّق بين الماضي والحاضر

ثقافة 2024/07/10
...

  د. حيدر عبد السادة جودة

يتفق أغلب الباحثين على أن التجديد، باختلاف المحمول الذي يكون التجديد له حاملاً، في الدين أم في الثقافة والسياسة والمسرح وغيرها؛ ضرورة حتمية وبالغة الأهمية، لأنه هو من يعطي البريق للشيء الذي من دونه يبقى خافتاً تحت ركام الماضي، على اعتبار أن التجديد محاولة قلب المقولات البالية بفعل الزمن، وتنقيتها وتشذيبها لقصد مراعاة التطور والتقدم الزمني، ومن ثم تقديمها كمقولات صالحة وغير مُستهلكة.
لكن التجديد، ومن أجل ديمومته ونجاحه، يحتاج إلى مجموعة من المبررات، من أجل التحلي بالشرعية والرخصة لقيامه بالواجبات المنوطة به، ومع أن مبررات التجديد كثيرة، إلا أننا نجد أن المبرر المعرفي للتجديد هو ما يستحق أن نسلط الضوء عليه، بغية الدفع بمعشر القراء والكاتبين نحوه بشكل مباشر، ليكون التجديد مبرر معرفي لا بدّ منه، نسترشد من خلاله إمكانية التواصل الخلّاق ما بين جميع الخطابات، القديمة والحديثة، عن طريق ربط المعايير القيمية والخروج منها بالأليق لصالح الواقع. إلى مثل ما تقدم، يشير المفكر نصر حامد أبو زيد، إلى أن الغاية الرئيسة في المبرر المعرفي للتجديد، يتمثل في تحقيق عملية التواصل الخلاّق بين الماضي والحاضر، عن طريق الخروج من أسر التقليد الأعمى، وإعادة إنتاج الماضي باسم الأصالة، وكذلك الخروج من أسوار التبعية السياسية والفكرية التامة للغرب باسم المعاصرة. وبالتالي يتيح لنا التجديد مغادرة ثنائية الأصالة والمعاصرة التي تجتر كل واحدة منها الحقيقة إلى ساحتها، لتحاول بعد ذلك تهميش الآخر. فالأصالة تعبّر عن سلفية مطلقة، تريد أن تقول، إن الحضارة الإسلامية، بمضمونها التراثي، ليست مجرد انجازات عادية عارضة، وإنما هي في صميمها روح ونمط من التفكير والفعل  والعيش، وقد أثبتت إنها خير حضارة أبدعها الإنسان، وأن أي قصد لاستبدال حضارة أخرى بهذه الحضارة لا يمكن أن يعبّر إلا عن إرادة بتراء. أما الثانية، فتذهب إلى القول، إن طاقات الإنسان الخلاقة قد عطلت في التراث السالف والتقليد، وإنه لم ينته أمره عند الحدود التي انتهى إليها في العصور التي مضت والتي دُرست، وإن من الضروري تفجير هذه الطاقات بعملية تجاوز كامل للماضي. لذلك يعتقد سلامة موسى بأن النهضة لم تعد تعني في الماضي.
وهذا الاقتتال بين اليميني الماضوي واليساري الاغترابي، كما يقول الجابري، ما هو إلا انعكاس شقاء الوعي على صعيد اللاوعي، كونهما لا يفهمان النهضة على أنها بناء شيء جديد، بل تبني نموذجاً جاهزاً، أما في الماضي الأصيل، أو الحاضر العصري. وكلاهما يعجز عن تحقيق التواصل الخلاق الذي من شأنه أن يؤدي إلى النهضة، ومن ثم فإن كلا النزعتين تشتركان في نقطة ضعف واحدة، أسماها الجابري بـ"الخضوع لسلطة النموذج"، والتي لا نستطيع من خلالها أن نفهم أو نمارس الأصالة والمعاصرة، بل لا نجدد فكرنا ولا نشيّد حلماً للنهضة، ما دمنا محكومين بسلطة النموذج، سواء كان تراثاً أو فكراً معاصراً.
التواصل الخلاق لا يتحقق بمحاولة أخذ طرف من التراث وطرف من الحداثة. فهذه المحاولة ما هي إلا لف ودوران على التراث واللحظة المعاصرة في آن واحد، والوصول في نهاية المطاف إلى تركيب، هو في حقيقة الأمر، وكما يقول الطيب تيزيني ليس أكثر من صيغة تعسفية وتجميعية لكلا الحالتين السابقتين. ويعتقد أبو زيد أن مشكلة التيار التوفيقي إنه ينتهي إلى التلفيق، بانتقاء عناصر فكرية من هنا وهناك، أي عناصر فكرية مأخوذة من أنظمة فكرية مختلفة، بل ومتعارضة أحياناً، ليصنع منها على تفاوتها بناءً واحداً يصلح للحاضر. وهذا لا يزيد من الأمر إلا تعقيداً، بل يجب أخذ طرفي الخيط بالتحليل التاريخي والنقد المتكامل. ويجب أن لا يمثّل النقد- حين يطال الظاهرة الدينية في أيِّ من تجلياتها أو تعبيراتها- جريمة كبرى في الثقافة الإسلامية الحديثة والمعاصرة، لأن طريق النهضة يقتضي التعامل مع كل النماذج تعاملاً نقدياً. فيجب أن تكون الظاهرة الدينية-بحكم معاصرتها- أكثر قدرة على تقبل النقد والاستجابة له بشكل إيجابي، أكثر من الثقافة الإسلامية في العصور السالفة.
وبالتالي لا يمكن تحقيق التواصل الخلاق إلا عن طريق مراجعة جذور البنية التقليدية، لا بهدف التكرار أو الإعادة، أو حتى مجرد التسجيل، بل لغاية نقد تلك الجذور، تواصلاً وانقطاعاً في الوقت نفسه؛ إذ لا انقطاع بلا تواصل نقدي مبدع وخلاق.
ومن هنا، كانت ثمار التجديد أن يحقق خروجاً مستنيراً من الأزمة الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية، والثقافية والفكرية، والدينية كذلك، من خلال تحقيق عملية التواصل الخلاق في الشأن المعرفي، التي تعمل على إعادة النظر في كل المسلمات، سعياً لتحرير المشاريع الفكرية من تفريطها وإسرافها، وكذلك من البعد التلفيقي المسؤول عن حالة العجز التي لحقت بكافة المجالات المذكورة.