النغم العراقي استمد هيبة الحزن من المنبر الحسيني
سامر المشعل
تصوير: نهاد العزاوي
أيام محرم الحرام وما فيها من حزن متوارث نبيل في إحياء ذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام، في إقامة مراسيم العزاء، تجعلنا نبحث في الذاكرة والتاريخ عن جذور هذا الحزن وما خلفته هذه الواقعة الأليمة في شخصية الإنسان العراقي.
والتي رسمت ظلالاً من الحزن المكثف على العديد من الفعاليات الاجتماعية والثقافية وأثرت بشكل كبير في النتاج الأدبي والفني في الشعر والموسيقى والغناء، التي تبدأ من المهد عندما تهدهد الأم وليدها وهي تناغيه: "دللول.. دللول.. ياولد يبني دللول.. عدوك عليل وساكن الجول"، بصوت أشبه بالأنين مع احساس غريزي بالمستقبل المفجع لوليدها الذي سيواجه المصاعب والأعداء.
واقعة الطف وما فيها من مآسٍ وظلم وقع على أهل بيت النبوة من قتل وذبح وسبي وحيف جعلت المسلمين يصابون بندبة موغلة بالضمير الانساني، وجرح تاريخي يتجدد وينكأ كل عاشوراء، بل أخذ هذا الجرح يتماهى في حياة العراقيين ويتوغل في ممارساتهم اليومية، ليرتبط الديني بالدنيوي والمقدس بالجانب الشخصي، ففي حالة الوفاة، يقترن حضور "الملا" في ختمة الفاتحة، يقرأ عن الإمام الحسين "ع" ويستذكر مصيبته، يبكي الرجال على الإمام المظلوم، فيهون مصابهم ويتأسون بمصيبة أبي عبد الله.
أما بالنسبة لمجلس النساء فتحضر "الملاية" وتبدأ القراءة بصوت شجي يقطع نياط القلب باستذكار مصيبة الإمام الحسين "ع" وما جرى على آل بيته وأبنائه وأخته من ظلم وجور والنساء يلتفن حولها بشعر منثور ولطم على الصدر والخدود مع صيحات "احوه.. احوه" تجاوباً مع الملاية التي تثير مشاعر الحزن لديهن على نحو هستيري، كي يتأسين بمصاب أبي عبد الله ويخف ألم الفقد من خلال ارتباط الحزن الشخصي بالمقدس.
يشير بعض الباحثين إلى أن طابع الحزن الذي غلف الأغنية العراقية وجعلها بهذا الشجن العميق، بسبب ارتباطها الوثيق بمراسيم العزاء الحسيني الذي نشأ وانطلق من أرض العراق، هذا الكلام صحيح، لكنه يفتقد إلى الدقة التاريخية، لأن مراسيم العزاء الجماعي والمناحات لها جذر تاريخي يعود إلى الحضارة السومرية والبابلية، فقد جاء في ملحمة كلكامش، وهي أقدم أسطورة تاريخية، رثاء كلكامش لصديقه أنكيدو قائلاً : "من أجل أنكيدو خلي وصاحبي، أبكي وأنوح نواح الثكالى".
وأشارت المصادر التاريخية، إلى مراسيم العزاء الجماعي التي كان ينظمها الكهنة سنوياً من باب عشتار وتنتهي عند معبد مردوخ، الذي يقع بالقرب من نهر الفرات.
وتشير الأسطورة إلى مقتل الإله تموز، بعد أن أخذ أسيراً إلى العالم السفلي، إلا أن الإلهة عشتار تحرره، بعد أيام من النحيب والعويل والبكاء والمراثي الحزينة، إلى أن يرجع إلى الحياة، باشارة إلى انتصار قوى الخير على الشر. يرمز ديموزي إلى إله الخصب والنماء، فتقام المراثي وطقوس الحزن التي يشارك فيها الملك، على مدى اثني عشر يوماً، وفي اليوم السابع تقام دراما حزينة تمثل عذابات وآلام ديموزي ومقتله.
فطقوس الحزن والعزاء متجذرة في العراق وترجع إلى فجر السلالات التاريخية، كما أشار إلى ذلك عدد من الباحثين ومنهم العلامة طه باقر.
لكن هذا الحزن توثق واقترب كثيراً في يوميات العراقيين وتمظهر في فنهم وثقافتهم بعد استشهاد الإمام الحسين "ع" في كربلاء العام 61 هجرية.
تجلى الحزن الكربلائي في الأغنية العراقية بشكل واضح من خلال الموال والغناء الريفي واصطبغت اللحنية العراقية بصبغة الشجن العميق، حتى أن موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، قال :"كل الغناء العربي يدور في فلك الغناء المصري، باستثناء الغناء العراقي، فله طابع
خاص".
وظهرت مسحة الحزن الكربلائي على نحو واضح في غناء حقبة السبعينيات من القرن الماضي، لأن أغلب العاملين في قطاع الأغنية من شعراء وملحنين ومطربين، هم بالأصل قادمون من منطقة الفرات الأوسط ومن الجنوب، فهم مشبعون بالمراثي الحسينية ونمت ذائقتهم الموسيقية على سماع الردات الحسينية فهم بالشعور أو اللاشعور يمزجون بين الغناء واللطميات والردات الحسينية.
والمفارقة الغريبة، أن حتى الفنانين الذين ينتمون إلى اليسار والحزب الشيوعي لم ينفذوا من تأثير القصائد الحسينية على ذائقتهم والروح اللحنية أو الأدائية التي ظهرت في نتاجهم الغنائي.
فالملحن كوكب حمزة الذي كان يسكن في قضاء القاسم في محافظة بابل، وكان ينتمي حينها إلى اليسار، نجد في أغنية "ابنادم " تأثيراً واضحاً لضرب الصنوج والطبول المستخدمة بالمواكب الحسينية موظفة كنسق إيقاعي بهذه الأغنية، وعن ذلك يقول الملحن الراحل كوكب حمزة عندما كنت ألحن أغنية "ابنادم" كانت المدينة موشحة بالسواد والحداد، وكانت المواكب الحسينية تجوب الشوارع في أربعينية الإمام الحسين عليه السلام، فكنت ألحن هذه الأغنية والدموع تنهمر من عيوني".
وهناك عدد من المطربين انتقلوا من قراء في مجالس العزاء إلى الغناء ومنهم المطرب عبد الأمير الطويرجاوي وداخل حسن وياس خضر وغيرهم، وأحياناً يحدث العكس أن يتحول المطرب من الغناء العاطفي إلى رادود حسيني مثل عبد الزهرة مناتي وفرج وهاب ومحمد رويشد، وآخرين.
يستخدم قراء المنبر الحسيني المقامات الموسيقية نفسها المستخدمة بالغناء مثل البيات والمخالف واللامي والصبا والسيكا وبطريقة أداء لا تبتعد كثيراً عن الغناء العراقي، يبدأ بالنعي بصوت شجي بطيء باستخدام الأبوذية أو الزهيري ثم ينتقل إلى الردة، وكلما اقتربنا من الريف الجنوبي نلمس هنالك تواشجاً وتقارباً بين الغناء الريفي والردات الحسينية.
تعد القصائد الحسينية وأصوات الرواديد الشجية والمؤثرة منبعاً، نهل منه الكثير من الملحنين والمطربين العراقيين، حتى نجد الكثير من الأغاني قد تطابقت في النسق اللحني مع الردات الحسينية، وقال الملحن الراحل عباس جميل بهذا الصدد "أنا استوحي من الملالي الكثير من ألحاني".
وهناك أغنية معروفة للفنان عباس جميل بصوت المطربة زهور حسين تقول كلماتها:
جيت ياأهل الهوى .. أشتكي من الهوى
أنه عدكم دخيل .. من عذاب الخليل
اه جم اه .. اه جم اه
آهات ياأهل الهوى
وفي هذه الأغنية نجد هناك تطابقاً لحنياً مع قصيدة للحاج عبد الرسول محيي الدين مشهورة جداً تقول كلماتها:
زينب اعله الذبيح .. من على التل تصيح
ان جانك حي دكوم.. بده علينا الهجوم
واحسيناه .. وا اماماه
من على التل تصيح
وهناك أغنية أخرى للفنان الراحل صلاح عبد الغفور بعنوان "لا تلوموني" تقول كلماتها:
لا تلوموني ترى كلبي ما يحمل ملام
ذبلن جفوني ما شفت طعم المنام
تتطابق في لحنها مع قصيدة حمزة الصغير، التي تقول كلماتها:
يمه ذكريني من تمر زفة شباب
والذي يبحث في هذا الموضوع يجد هناك الكثير من الأغاني التي تطابقت بألحانها مع القصائد الحسينية، وقد تأثر الكثير من الملحنين بالتراث الحسيني سواء بالشعور أو اللاشعور حتى انعكس هذا التأثير المتبادل، أن وسم الأغنية العراقية بطابع الحزن النبيل الصادر من الروح والالتزام الفني بانتقاء المفردة الرصينة واللحن المعبر.