ميثم الخزرجي
إن تهيئة النظام الأخلاقي والقيمي للجنس البشري ناجمٌ عن عدة مؤثرات لها اعتباراتها المؤهلة في رسم ملامحه بصورة جلية، لعلَّ العامل المهم في تعيين صفاته النسقية وتشكيل بنيته الثقافية الخاصة به هو العنصر الوراثي الذي يُفرض جينيا وتنتقل سماته عن طريق الوظائف الفسلجية للأعضاء لتمنحه شارة تميزه عن غيره، فضلاً عن عنصر البيئة وما تتضمنه من علائق اجتماعية ونفسية لها القدح المعلى في تقدير مزاياه وتنشيط فاعليته إمعانا للمناخ المرافق له، وقد أجد أن هذين العنصرين معنيان في بناء منظومة الفرد وما ترتّب عليه من مقدّرات إنسانية تعنى بطريقة تعاطيه مع مستجدات الحياة، ثمة أسئلة عديدة تولد من هذا العالم التكنولوجي والأوان الذي يَفرِد للخيال مساحة حرة ليطرحها على أرض الواقع، هل أن السياق العام المكوّن لشخصية الإنسان باستطاعته أن يتغير، وأنا أتحدث هنا عن مزية جوهرية خاصة لها مقرراتها النفسية واستقراءاتها الذهنية، كالمزاج والشجاعة والكره والإقدام على الأفعال الحياتية بغض النظر عن ماهيتها بل حتى المتبنيات الفكرية والعقائدية التي صيّرت الفرد وصاغت هويته، هل من الممكن أن تتلاشى لتحلَّ محلها مفاهيم وصفات أخرى تعيد تهيئته من جديد؟
وقد ينسحب هذا الأمر على المنظومة المجتمعية التي تمثّل هيكلية الوعي الإنساني بحسب تعبير هيجل مكونة بدورها الوحدة العضوية الشاملة، هل يعاد تشييدها من جديد على وفق صفات وافدة؟
ومن أين لها أن تفدَ هذه الصفات لتخلق فرداً أو مجتمعا بحلة مغايرة؟
هل أن العولمة وتمدّن العالم عن طريق الابتكارات العلمية والطروحات الثقافية والمحاور الجدلية من مباحث ديالكتيكية تعنى بالمعارف على اختلاف توجهاتها المعلوماتية والتقنية أو الإثنية لها صورتها الحية التي تنزع نحو التغيير في خلق مسار مختلف؟ وهل أن هذه المؤثرات لها
القدرة على إخلال الحالة الشعورية والحسية للإنسان مكونة أبعاداً أخرى لها طباعها ونسيجها العام؟واقعا أن المعني بإنثروبولوجيا المجتمعات تقدّر له علم دراسة الإنسان على وفق نظام معرفي جاد باستطاعته أن يغرس نصله في عمق البنية القيمية والأخلاقية تبعا لمنشأ الفرد وطقسه العام، لذا نلاحظ أن تأثير التقانات العلمية جرّفت الكثير من المفاهيم وصاغتها عبر جهاز مفاهيمي له مفرداته ولغته الخاصة ليتعاطى الفرد مع حيثيات المجتمع ويتماهى مع مستحدثاته، ولعلى أجد أن تسييب المضمر النسقي واستعاضته بآخر جاء عبر صخب الأجواء المعلوماتية الجديدة التي دخلت لنا أبان العشرين سنة الأخيرة وتحديدا بعد الاكتشافات الحديثة التي جعلت خصوصية الفرد سائلة بل تخطّت من أن تكون منتهكة عن طريق الروبوت والذكاء الاصطناعي وبرامج السوشل ميديا التي ابتلعت جزءا كبيرا من الذهن لتضفي سمات جديدة والتي بدورها تمسح سابقتها أو تحدّ فاعليتها.
لكني أتساءل عن الجزء أو العضو المخوّل بتدوير الأنساق وتغيير مساراتها؟ هل أن الدماغ هو المسؤول عن ذلك بوصفه الجانب المعني بالإدراك والتفكير والتأمل متكفلا بالتعاطي مع مجريات الحياة؟ ما أعنيه، هل ثمة خلايا مختصة عن حرِف الصورة السالفة باتجاه آخر وإعطاء صورة ثانية تبعا لما تجبره العادة أو التجربة؟ أم أن تغييب دور العقل والاعتماد على ما يفرضه الواقع جعلت الإنسان في لوثة دائمة مسببة انهيار منظومته النسقية ليتبدد كثيرا من معناه؟ وهل أن النسق باعتباره النظام الكلي الذي يمكّن الكائن البشري على إدارة حالهِ إزاء الأحداث والوقائع التي تحصل معه مرتبطا بالعقل؟ أم أن الطبيعة البيولوجية هي المتحكمة به؟ هل ثمة صلة ما بين السمة النسقية المضمرة المشكّلة لماهية الانسان وبين العقل بوصفه صورة الحقيقة المثلى كما أشار الفلاسفة العقلانيون إلى ذلك؟
بطبيعة الحال ثمة مسألة بالغة الأهمية، هي ارتباط المشاعر والأحاسيس بالروح الإنسانية الخاصة للفرد، وقد نعتبر أن هذه المزايا المضمرة منسوبة إلى العاطفة، طيب وما هو دور العقل حيال إتباعية النسق؟ وهل أنه يتغلب على النظام الثقافي الذي عني بسلوك الإنسان وتصرفاته في حال لو تعالت كفته على الجنبة الباطنية المتمثلة بالمحسوسات؟ ولماذا نعتبره صاحب المهام المنطقية، عند تعيين الخطأ من الصواب؟ وهل على الإنسان في حال تمييز قراراته أن يشرك قواه الذهنية؟ وإن فعل ذلك، هل فيما معناه أن يتجرّد من العاطفة ليكون إنسانا تكامليا قادرا على تجنّب المشكلات المحيطة به، إذا ما هو سبب الانكسارات العظيمة المعنية بقضايا الإنسان المعاصر لو أجزنا القول أن العقل هو الذي يدير الدفة؟ ألم يكن العقل عنصرا فاعلا في كثير من ضروبه؟
لو استقرأنا الحال بعيدا عن نظرة المذاهب الفلسفية التي لكل منها توجهاتها المعرفية إزاء هذا الموضوع، لوجدنا أن صلة العقل بالعاطفة صلة وثيقة، وقد نشير إلى ماهية المساحة الوجدانية التي تتعاطى مع القلب بوصفه المركز الذي يهب هذه المساحة غير أن المؤثر الفعلي هي الخلايا العصبية الموجودة في الدماغ التي تعنى بكنه الأحداث والمشاهد المطروحة على أرض الواقع، وحتى الوقائع السابقة المبيّتة داخل الروح البشرية ومدى انهماكنا بها من حيث الاستقرار عندها والعناية بها أو سحقها وإخراجها من دائرة الفكر يكون تأسيسها واستبيانها على وفق معايير ذهنية، لذا أن تضخّم النسق أو اضمحلاله له صله بالعقل قد تكون العاطفة جزءا من ذلك، لكن تعيينه ومدى إحاطتنا به يحتكم لفاعلية عقلية متصلة بالحركة الجوانية التي تدّخرها العاطفة، مع الأخذ بعين الاعتبار تمثلات المكان ومحدداته الثقافية بوصفها معيارا تقويميا تعنى بماهية تكوين الفرد، وهنا أنوّه إلى تركيبة المجتمعات التي تعرّضت على مدى حقب زمنية لكمٍ الصراعات الإيديولوجية المصاحبة لبناء وعي الإنسان قد تغيّرت تغيرا جذريا من جميع النواحي، فلم نجد في هذا الحين مجتمعا مصرّا على سياق ثابت، ليكون التغيير في نظامه الابستمولوجي حيال ترادف ثقافات عديدة ليتماهى مع مستجداتها، وقد نتساءل في سرِّنا، أين حلّ بالنسق؟
وأين هي فطرته؟